أبو كنعان
آمن الفيلسوف والمناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي من خلال فلسفته الشهيرة، فلسفة " البراكسيس" بقدرة المنتجين الأحرار من سياسيين وفلاسفة وفنانين وعمال على الفعل الواقعي، وأن يكون لهم بصمة في تغيير تاريخ مجتمعاتهم نحو الأفضل، بشرط قيامهم بالوثبة الجريئة الجدلية القائمة بين النظرية والعمل، أي ربط عملهم على الأرض بأهدافهم كمبدأ التمسك بالثوابت وحب الوطن من وجهة نظري، وتكريس دورهم الطليعي في حياتهم النضالية، من خلال إيجاد علاقة عضوية متينة بالمجتمع.
استعراضي للتجربة الفلسفية الغرامشية، يستهدف المقارنة بينها وبين الواقع الفلسطيني الراهن بمرارته وتعقيداته، وانتشار التكلسات على نظامه السياسي، وظهور قيادات هي أقرب بمعتقداتها للفكر الفاشستي، الذي تنبأ غرامشي بظهوره وحذر منه في مناسبات عدة ، ولقد دفع حياته ثمناً لها، ويدفع الشعب الفلسطيني الآن نفس الثمن نتيجة استيلاء رموز فاشستية صغيرة على المشهد الفلسطيني، من خلال محاولتهم مسح الذاكرة الفلسطينية والتجربة النضالية الرائدة للشعب الفلسطيني، واستبدالها بخطوات تستهدف تغييب الارث الوطني للفلسطيني المفعمة بمصطلحات النضال، والمقاومة، وحب الوطن، والتشبث بالأرض وحقه بالعودة، وارتباطه العضوي بمرتكزات هويته وتراثه الوطني والفني ..
ويبقى السؤال المطروح هنا، أين الشعب الفلسطيني من هذه القيادات الفاشستية التي حذر غرامشي من ظهورها في المجتمعات؟ وما سر استسلام شعب الانتفاضات والألم والكبرياء لها؟ ألا يعرف أن هذه القيادات تركت الوطن، وفكرت بالذات، وتحاول بضراوة إسكات الحق الفلسطيني، وفرض حصار على فكره النضالي الثابت؟!.
الوطن ليس سلطة بلا إنجازات أو مكتسبات، الوطن لا يمكن اختزاله بحركتين لاهثتين وراء هذه السلطة، واقتسمتا كعكتها، هو ليس انتظاراً طويلاً أمام طوابير الصراف الآلي للحصول على راتب خدمة " اللاعمل وأهل الكهف والسكون وزيادة النسل والسمنة"، وليس وقوفاً أمام بوابات مقار الأجهزة الأمنية بحثاً عن عمل لدى الحاج دايتون، ليس أرضاً مجتزأة أو دولة حدود مؤقتة، أو كنتونات، تحكمها مقاطعة لا تستطيع إظهار سيادتها على دوار منارتها، إن الوطن في الحقيقة هو ما يستحق لشعبنا الحياة عليه، وليس حياة المفاوضات والتنسيق الأمني وخارطة الطريق.
هناك بديهيات لا يمكن إغفالها، ولا يمكن لأي كان التفريط بها.. أو المرور عبرها وتجازوها.. ولا أحد يستطيع أن يمنع قشعريرة تسري في داخل طفل فلسطيني في طابور صباح أثناء تأديته النشيد الوطني الفلسطيني وتحيته للعلم الفلسطيني، للأسف هذا زمان تم فيه تغييب الوقفة الشامخة أمام هذا النشيد اليومي واسترجاع ذكريات الوطن السليب، في مقابل انتشار أناشيد السلام وتعويذاتها وإنجازات سلام فياض المزعومة، ولا أحد يستطيع مصادرة بندقية المناضل ثائر حماد، صاحب عملية وادي الحرامية البطولية، لأنها لا تصدأ أبداً، في مقابل عطل بنادق رجال أمن حمامة السلام المزعومة.
لا يريد شعبنا انتظار موسوعة جينيس للأرقام القياسية، ليعطي السيد فياض -موظف البنك الدولي -صك إنجاز بصناعته الثوب الفلسطيني الأكبر حجماً لأن هذا الارث الفني ورثناه أباً عن جد حاضراً ومستقبلاً، ولا يمكنه هذا الفياض أن يسرق رغيف المسخن من أمام عائلات قطع رواتبها، أو همشت أو اعتقلت عوائلها.. حتى يظهر للعالم أنه صاحب هذا الرغيف الأسطوري، بإمكانه أن يسأل أي إنسان على هذا الكوكب عن أكلة المسخن، ليجيبه أنها فلسطينية خالصة، بدون عرضها على موسوعات جينس القياسية، وبدون سرقة شرف هذا التراث.
الوطن ليس أكذوبة دولة بعد عامين، والذي يتصرف صاحبها كزعيم أكبر دولة .. كيف لا وهو يصم آذاننا بالريادة والإنجازات والتنمية والعمل الطوعي والمقاومة الشعبية " المستأنسة" في حديثه الأوبامي الاذاعي الأسبوعي !!! فوبيا العظمة انتشرت في أوصاله، وعقلية تنتشر بها البلاهة أفقياً وعرضياً، لم تتربى يوماً على المضامين الوطنية والشعارات التي تمنح الشعور بالانتماء والاستعداد للتضحية، بل حوّل مساحة الوطن إلى جدول محاسبة دائن ومدين وأستاذ.
الوطن ليس ذاك الفن المرقع المغطى بالكوفية الملونة المزركشة، إنه ليس أغاني أبو العبد، والشرعية، وبالزعيم الفهلوي القائد، ومركز شباب اللجنة التنفيذية والسلطة وزعيم الحركة وتبع كله، بل فن الوطن هو ثقافة " إني اخترتك يا وطني، وأمي، ورجع الخي، ويما ويل الهوى، ويا ظلام السجن، وأغاني فرقة العاشقين، والفنون والطريق، وأشعار درويش، ورسومات ناجي العلي، وأدب غسان"، ولا يمكن لأحد المرضى بداء السلطة، أن يبشرنا بإعادة تشكيل فرقة العاشقين، طمعاً في إنجاز له، هو لا يعرف أنها ارتبطت وجداننا وستظل خالدة، وهي ليست سلعة رخيصة معروضة للبيع في شركات إنتاج المتاجرة بالتراث الوطني الفلسطيني.
إن مجتمعاً مغلوباً على أمره يُفرض عليه أتاوات وضرائب ودفع ثمن بقاء الحاكم على الكرسي، لا يمكن أن يكون ذلك المجتمع الذي بشر فيه غرامشي ودعا إليه وقضى من أجله، إن مجتمع الفضيلة هو المجتمع الذي لا يفرط بارث شهداءه وثوابته، ، فهل لدى شعبنا القدرة على تخليص ارثه النضالي ومقاومته من هؤلاء الفاشست، كما تخلص أنصار غرامشي منهم ؟؟!!!