أبو كنعان
أعيانا التعب ونحن ننظر بلهفة بالغة لأمواج بحر غزة المتلاطمة وهي تنهب البحر بهديرها الغاضب لعلها تأتينا بأخبار جديدة عن أسطول الحرية، التي أذاعت وسائل الإعلام اقترابه رويداً رويداً من مياه غزة... أصابنا طول الانتظار بالدوار في ليلة ما قبل الحادث الأليم ...هزمنا التعب ولكن بقينا مسكونين بالأمل أن يأتي القمر الذي يتلصص بنوره على المياه المترامية الأطراف بالخبر اليقين عن مصير الأسطول.. كنا نتوقع معركة مباشرة بين المتضامنين والاحتلال الإسرائيلي الذين توعدوهم بمنعهم من الوصول إلى شاطئ غزة... لم يذهب تفكيرنا بأبعد أن تكون معركة المواجهة المباشرة معهم هي معركة صمود وتحدي.. معركة كر وفر.. ينجح المتضامنون فيه بالوصول لهدفهم المنشود أو لا.. ولم نتوقع مجزرة صهيونية أصابت الإنسانية جمعاء بالصدمة والغضب والجزع.. جريمة مسحت القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وقوانين حقوق الإنسان وحماية المدنيين والعزل بأقدام قوات الكوماندز الإسرائيلية الجبناء.....
تخلصنا من هول الصدمة وأدركنا عندها أن ما حدث كان امتداداً طبيعياً لما عرفناه وعايشناه من جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ولكن هذه المرة اجتازتنا هذه الجرائم لتصيب في مقتل العالم الحر كله، وكشفت الوجه الحقيقي للاحتلال، ولشريعة الغاب التي ترأسها الولايات المتحدة الأمريكية المناوءة للاحتلال.
تابعت عن كثب مآل الجريمة البشعة، وردود الفعل الغاضبة من جميع أنحاء العالم، وسبحت بعاطفتي وتضامني مع الشهداء الذين سقطوا في الأسطول عبر تصفح مواقع الانترنت بعد أن فجعت عيناي ومسامعي بما تعرضه الفضائيات من أخبار مكررة حول هذه الكارثة، وبعد أن أصبت بعطب شديد في التركيز نتيجة الإرهاق الشديد وقلة النوم، والغضب المكبوت الذي سرى في جسمي، وإذ برسالة معروفة العنوان محببة إلى قلبي تصلني على بريدي الالكتروني.. وجاءت لتخلصني ولو لدقائق معدودة مما أصابني والجميع من هول الجريمة الإسرائيلية.
كانت رسالة باللغة العربية من بريد الكتروني ملقمه يوناني، مزدانة بالموسيقى الحزينة المشهورة للموسيقار اليوناني NICO، وبذل صاحب الرسالة جهداً كبيراً في إثراء عبارات الرسالة بعبارات حزينة، متعاطفة، متأثرة، رغم عدم اتقانه للغة العربية بشكلٍ كامل يستطيع من خلاله إيصال حجم العاطفة والحزن الجياش الصادر عنه جراء الجريمة الصهيونية في عرض البحر.
مضمون الرسالة لم يكن بعيداً عن مشاعري التي تأثرت بالحادث، وإن كان الشئ الجديد فيها دعوة للتضامن من الشعب اليوناني للشعب الفلسطيني ولشهداء الأسطول.. من شعبٍ كان يضم الأسطول نفسه متضامنين منهم. وعلمهم يرفرف شامخاً بجوار أعلام فلسطين وتركيا والجزائر وأعلام البلدان الأخرى..
لهذا عشقت اليونان وأهلها.... صحيح أن عشقي الأبدي المجنون هو لوطني فلسطين، إلا أنه لا يعني ذلك اغفال كريات عشق حمراء تجري في عروقي وتمتزج رويداً رويداً بأوصالي وتهتف تارة باسم فلسطين.. وأخرى باسم رديفتها بالعشق " اليونان" ( هيلاس) .
قد يتساءل البعض عن هذا السر الكامن بداخلي، والذي جعل اليونان مختلفة اللغة والهوية والعادات والتقاليد منافساً حقيقياً لعشقي فلسطين رغم أنني لم أزرها يوماً ولم ينجذب قلبي ويخفق لإحدى الأثينيات مثلاً ... وليس لأن اليونان كانت تمثل طفولة البشرية الأولى، ومهد الحضارة الإنسانية، وفيها ترعرعت الديمقراطية والفلسفة والحضارة الغربية، ولا لأنها في بعض فترات حياتها اتبعت سياسة داعمة لقضيتنا الفلسطينية العادلة، وليس لطبيعتها الساحرة .. ولا لتشابه الملامح الغريب بين الفلسطيني واليوناني.. بل لأن سيدة يونانية اسمها بيلاجيا – وهي بالتأكيد صاحبة الرسالة- التقيتها أول مرة في ربيع 2002 على الحدود المصرية – الفلسطينية، ألهمتني وأسقتني ترياق عشقي الجديد لليونان.. وجعلت لها مكانة خاصة في قلبي بجوار فلسطين.
لم تألو ذاكرتي جهداً في الاحتفاظ بلحظات لقاءاتي القليلة معها وجهاً لوجه بين جنبات مخيمات رفح وخان يونس وغزة، وبعد تصاعد الأمور في قطاع غزة عام 2003 ومغادرتها والأجانب وحركات التضامن نتيجة القصف الإسرائيلي العنيف آنذاك، أصبح الفضاء الافتراضي وسيلتي الوحيدة للتواصل معها، فتابعت بيلاجيا عن كثب الأوضاع الفلسطينية، وكنا بين الحين والآخر نتبادل الرسائل عن مجمل الأوضاع الفلسطينية، وأحياناً تأخذ هذه الرسائل طابع الحوارات (الاستفسار والأسئلة والإجابة). بالسياق العام كنا أمام امرأة تفتحت لهفتها الشديدة وتألمت وحزنت وبكت لمآل الوضع الفلسطيني القائم لتأخذ بأدق التفاصيل التفاصيل عنه.. كأنها عربية الانتماء، فلسطينية الهوية، وتنوع مشاربها لترسل لي رأيها اليومي أو استفسارها من موضوع أو حادثة ما، وبعد مرور سنوات على حوارنا المتواصل، ومنذ أن أخبرتني أخيراً أنها ستلتحق بقافلة أسطول الحرية المتوجه لغزة( تراجعت لمرضها)، أيقنت أهمية سرد المادة الحوارية التي دارت بيني وبينها اعدة سنوات لأهميتها.
لم يكن وجودها في منطقة ساخنة كرفح رغبة منها في التمتع بالجو الربيعي أو الاستجمام في رمال رفح الحارقة، أو حضور قداس في ليلة عيد الميلاد بكنيسة قرب الحدود، بل التصدي لجرافات الاحتلال التي تتقدم باتجاه الأرض الفلسطينية لتفقدها ربيعها، وبيوتها أهلها، وأطفالها كتبهم المدرسية ولعبهم، وشبابها مستقبلهم وأحلامهم.
لم تغادر ملامحها ذاكرتي المريضة بالنسيان ووجع الحياة كل هذه السنوات ولعل حادث الأسطول الجلل، جعل ملامحها ترتسم أمامي كأنها موجودة وجهاً لوجه أمامي، كانت امرأة في نهاية الأربعينيات، اغريقية الملامح.. طويلة القامة كمرتفعات ليندوس ، نحيفة الجسم، غلب شعرها البياض كالثلوج التي تسقط على جبل أوليمبوس في شتاءٍ قارصٍ، تمتلكان عينان زرقاوتان حادتان كالبحر الهادر الذي يحيط بجزيرة كريت، كانت فارسة بمعنى الكلمة كاخليس المحارب اليوناني الاسطوري، تتحدث العربية بأسلوب ركيك مفهوم.. وأحياناً تتمتم بالإنجليزية التي تجيدها بطلاقة.. وإن غضبت من أمرٍ ما أطلقت ليونانيتها العنان بسباب وصراخ غير مفهوم المعالم.
أكسبتها شجاعتها وشجاعة جميع المتضامنين الأجانب في الدفاع المستميت عن أهالي مخيم رفح المنكوب احترام الجميع، وبدت كقديسة يونانية تضاهي حكمة أفلاطون أعظم فلاسفة اليونان، وجرأة سقراط ودفاعه عن حريته باستماتة والتي دفع حياته ثمناً لها، وانشداد أرسطو لحرية العيش بسلام وطمأنينة، إلا أنها كانت شرسة وقوية كمقاتلة اسبرطية قديمة، برز ذلك واضحاً في استماتتها في محاولة منع تقدم البلدوزارت الصهيونية تجاه المنازل الفلسطينية رغم تقدم سنها.
كانت رومانسية الروح، عميقة المشاعر.. تعشق الفلكلور اليوناني.. خاصة موسيقى الزوربا الشهيرة.. متفوقة على رقصة الممثل القدير " أنطون كوين " الشهيرة بفيلمه الخالد " زوربا اليوناني"، كما وعشقت الدبكة الشعبية الفلسطينية واعتبرت الدبكة والزوربا امتداد لتراث أصيل لشعبين طالما عبرا عن حبهما لبعضهما البعض، ورثت عن جدتها حبها لأغاني سيد درويش، حيث عاشت هذه الجدة بمدينة الإسكندرية.. تلك المدينة التي امتزجت بها الشخصية العربية السكندرية وتعمّدت بالشخصية اليونانية، ونتيجة لذلك ليس غريباً أن تتطبع الشخصية السكندرية بطابع وروح الحضارة اليونانية العاشقة للحياة، وبرز ذلك في وقوف اليونانيين مع إخوانهم المصريين بنضالهم ضد الاستعمار البريطاني.
كانت تفترش الأرض على الحدود المصرية عندما تعرفت عليها، وتنظر بحسرة بالغة لشجرة زيتون اقتلعتها جرافة صهيونية مع سور منزل لا يبعد كثيراً عن الحدود، وسألتها من باب الفضول بالانجليزية " عن جنسيتها وسبب تأثرها الشديد من رؤية شجرة زيتون وقد اُقتلعت من الأرض"، على اعتبار أن هناك مشاهد أكثر مأساوية أصابت المنطقة، كما وأن الأهالي هناك تعودوا على مشاهد الدمار والهدم وحتى الدماء".
تهللت أساريرها وكأنها تمنت أن ينفض أحد ما الحزن الكامن بداخلها وابتسمت وقالت بعربية ركيكة " أنا يونانية، أعشق الثقافة العربية، وأؤيد القضية الفلسطينية، ارتبطت فيها منذ سنوات المراهقة وعاصرت أحداثها وتفاصيلها، حيث نشأت في عائلة أكثر اقتراباً للعرب وهمومهم وقضيتهم من أصولها الأوروبية".
شدني حديثها، وقادني لسؤالها عن الظروف التي أثرت عليها، وأدت بها لأن تكون في بقعة تعتبر من أشد المناطق الفلسطينية سخونة وخطورة، قالت لي: " جئت هنا لوحدي، بعد معاناة كبيرة نتيجة رفض الاحتلال دخولي في البداية، حيث لم أكن أحمل بطاقة صحافية أو تنسيق من السفارة اليونانية لدخول القطاع، ولم أكن عضوة بأي حركة من حركات التضامن التي تنتشر في قطاع غزة، إلا أن إصراري على دخول القطاع أدى بالسفارة اليونانية للتنسيق لي ودخول القطاع للمرة الأولى في حياتي، فقد كانت زيارتي عفوية جداً، ونتيجة لعهد قطعته على نفسي أن أزور هذا القطاع وهذه البقعة ( رفح) بالذات، وحكاية هذا العهد بدأت عندما كنت بإحدى مستشفيات القاهرة لزيارة ابنة صديقة مريضة، هالني مشهد طفلٍ صغير ينتمي لمدينة رفح يصارع الموت في احدى مستشفيات القاهرة نتيجة إصابته إصابة خطيرة في جميع أنحاء جسده، جراء إطلاق قوات الاحتلال عليه قذيفة دبابة في إحدى توغلاتها وعدوانها اليومي على أحياء مخيم رفح، وزاد من هول الصدمة ما أخبرني به الطبيب المعالج للطفل أن ردهات وغرف المستشفى وغرف العناية المركزية مليئة بإصابات مماثلة لأطفال أصيبوا من العدوان الإسرائيلي المتواصل على مناطق مختلفة في القطاع خاصة بمنطقة رفح.
عندها استطردت بيلاجيا وأجابتني على سؤالي السابق وقالت " إن سر حزني على شجرة الزيتون التي اقتلعها الاحتلال هو حبي لهذه الشجرة التي تتزين بها جميع أنحاء اليونان كما فلسطين، وجزعي لاقتلاع هذه الشجرة هو أنني أرى دائماً هذه الشجرة شامخة لم أتعود أن تبلغ البشرية يوماً حد الدناءة والجبن لاقتلاع هذه الشجرة بالذات".
لا أستطيع سرد جميع الرسائل التي وصلتني من بيلاجيا، أو ردودها على رسائلي ولكن لأهمية مضمون بعضها، والتي استطعت فيها تحديد معالم وأهمية التضامن الدولي مع قضيتنا الوطنية، وجدت في هذه الرسائل كنزاً معرفياً ليونانية انغرست في المشهد الفلسطيني كأنها فلسطينية فعلاً، كان سر سعادتها الدائم، وحتى لوغاريثم انسياب دموعها على وجنتيها، أمر مرتبط بالقضية الفلسطينية.
أخبرتني أن سعادتها البالغة تملكتها في الماضي وهي ترى الشعب الفلسطيني يقود مسيرة النضال الفلسطيني ويبادر بالانتفاضة الشعبية الأولى، واعتبرت استمرارها مفتاح الحل للقضية التي شغلتها، ولكنها بكت بعدها عندما وقعت القيادة الفلسطينية بالفخ ووقعت اتفاقية السلام، عندها أيقنت أن القيادة الفلسطينية قد طعنت شعبها في ظهره.
تردد دائماً في تعقيبها على مواقف وسلوكيات القيادة الفلسطينية " يا لهذه القيادة الغبية !!! حاصرت شعبها.. وجوعته.. وحشرته في الزاوية من أجل سراب "..
عبرّت في مناسبات عدة عن احترامها الشديد وحبها للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكانت ترى فيها الأمل، واعتبرت مؤسسها الدكتور جورج حبش قديس النضال الفلسطيني، الذي لم تنحرف بوصلته قط عن مسارها... لم تخفِ إعجابها بالأديب الراحل غسان كنفاني وكيف قاتلت يوماً من أجل الحصول على رائعته " رجال في الشمس" مترجمة باللغة اليونانية...
كانت تمتلك عمقاً سياسياً بالقضية الفلسطينية وموقفاً محترماً لا تستطيع كتيبة من قيادات السلطة المترهلة الإلمام أو الإحساس بها.. حزنت كثيراَ مما حملته الرياح الآتية إليها من الأراضي الفلسطينية من انقسام واقتتال فلسطيني. واعتبرته أشد قسوة من بذور السلام التي سممت الأرض الفلسطينية.
تحتفظ في بيتها بصورة كبيرة للطفل الفلسطيني " فارس عودة" وهو يواجه بحجره دبابة كبيرة على تخوم غزة، وصفته بالمقاتل الأسبرطي الذي واجه العواصف وخاض غمار المعارك بيديه العاريتين وانتصرت شجاعته في النهاية، لخصت المشهد الفلسطيني آنذاك بالقول: " إن المستقبل سيقول كلمته أخيراً للفلسطينيين، فإن شجاعة طفل فلسطيني يقف بصدره العاري ويواجه جنود يستترون داخل دبابة مدججة بمختلف الأسلحة ستنتصر أخيراً".
بكت يوم استشهاد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، رغم أنها عارضت جزءه الثاني من حياته، أدركت بعد اشتعال الانتفاضة الثانية أن عرفات يحاول استعادة بريق ثورته ونفض تبعات أوسلو عنها، ولكن الموت الإسرائيلي لم يمهله كثيراً في تصحيح مساره القديم، لهذا بكت وبكت كثيراً وكأنها فلسطينية الجنسية المستقبل الفلسطيني يهمها، وكل المشهد اليوناني والحياة هناك لا يعنيها..
سبب العلاقة المتميزة بيني وبينها أن أفكارنا كانت متوحدة في المواقف والثوابت والآراء والمشاكسة بالمواقف والعناد، رغم فلسطينيتي ويونانيتها، كانت تقول لي لدائماً "أنت ابني الذي لم أنجبه".
كان يجمعنا حب العمل ، وإن تضايقت كثيراً من انشغالي بالعمل أحياناً عن الرد على رسائلها العديدة، وإن خالفتني أيضاً في حب الفرنسيات، فكانت بشكل تهكمي ساخر تصفهن بالثرثارات والفوضويات، معتبرة ارتباط الفلسطيني بهن خطأ تاريخي قاتل.
رفضت باستمرار طلبي منها التوقف عن التدخين، فقد كانت تدخن بشراهة كبيرة، وكانت تعتبر التدخين وسيلتها الوحيدة للتعبير عن غضبها من هذا العالم.
باختصار، سكن إله الحرية داخلها، أعطاها عنفواناً وقدرة غير عادية على الصمود والاحتمال، كان بريدها الالكتروني يحتوي على خاطرة اقتبستها من جملة شهيرة لسقراط عند محاكمته: " ليس على الأرض إنسان له الحق في أن يملي على الآخر ما يجب أن يؤمن به أو يحرمه من حق التفكير كما يهوي..يجب عليهم أن يتركوا الناس أحراراً".
عرفت أخيراً أن السبب الرئيسي الوحيد في عدم التحاقها في أسطول الحرية، هو استفحال المرض بداخلها.الذي أرقدها بيتها وأبعدها عن عملها ونشاطها، عندها أدركت أن هذا المرض اللعين أوقف زهرة حرة يانعة، كما أوقف الاحتلال الإسرائيلي الأسطول في عرض البحر وما تبعه من جريمة نكراء.
تضامننا الشديد معها، ومعهم، تمنياتنا بالشفاء العاجل لها ولهم، لن ننسى تضحياتها وتضحياتهم، يوماً ما سيكون ضمائر هؤلاء الأحرار جسراً لنا لتحقيق مرادنا في الاستقلال والعودة.
( انتهى)