الثلاثاء، 15 يونيو 2010

عملية الخليل "الارهابية"...

أبو كنعان

أصاب رئيس وزراء حكومة رام الله السيد سلام فياض بإدانته اليوم حادثة إطلاق النار "الإرهابية" التي أدت إلى مقتل شرطي إسرائيلي " برئ" جنوب مدينة الخليل، وأعجبني موقفه الحكيم وتشديده الحازم بأن السلطة الوطنية ستتخذ كافة الاجراءات الكفيلة بمنع المخربين من استهداف سيادة دويلة فلسطين الفياضية الديمقراطية القادمة، ومنع تكرار مثل هذه الأعمال الإجرامية بأي وسيلة ممكنة، والتي أثبتت التجربة أنها أضرت بالمصالح الوطنية وخدمت المشروع الاستيطاني الإسرائيلي على حد قوله.

وأنحني إجلالاً وإكباراً له على رباطة جأشه إزاء ما قام به " الإرهابي" ابن بلدة سلوان زياد محمد الجولاني، من اعتداء آثم على الشرطة " الإسرائيلية" الجمعة الماضية، فدماءه التي نزفت وأغرقت مدينة القدس وأحيائها القديمة ليست زكية ولا يحق لها أن تسيل في ذلك المكان. لأنها خارج حدود الدولة الفلسطينية العتيدة.. وجيد أن تغض البصر سيدي فياض على حملات جيش الاحتلال في المدينة المقدسة وهدمها البيوت في سلوان والعيسوية وواد الجوز والشيخ جراح.. فسياستك قاطعة مستقيمة تتسم بالحياد واحترام القانون، فلا تقبل أن يعيش هؤلاء الأهالي في بيوت غير مرخصة.

أوافقك الرأي تماماً، أنه لا يحق لأهالي عراق بورين وقرى نابلس ومزارعي الضفة البسطاء هتك عرض براءة المستوطنين هناك.. لا نقبل إطلاقاً استثئار قرى نابلس بنفسها وطمعها الشديد في الاستفادة من الزيتون لوحدها دون مشاركة المستوطنين في حصادهم.. فالشراكة الحقيقية والعيش بسلام ووئام تحت ظل دولتين واحدة فلسطينية وأخرى " إسرائيلية" تقتضي مشاركة غلاة المستوطنين أهالي الشعب الفلسطيني في رزقهم، ومن حقهم في إطار هذه الشراكة حرق الأشجار وترهيب الأهالي ونهب الخيرات.. !!!

سيدي .. ينبغي منكم اتخاذ إجراءات أكثر حزماً وقوة ضد كل من تسول نفسه تهديد السلم الأهلي والالتزامات مع الاحتلال، فالجميع يشيد بقواتكم الشجاعة المرابطة على الثغور.. جيد أن يكون كل شئ تحت السيطرة وأن ينعم الاحتلال وغلاة مستوطنيهم وماشيتهم وكلابهم بالهدوء وبالأحلام السعيدة الوردية.. طالما قواتنا لديها إصرار غريب على تحطيم الأرقام القياسية في اجراءات لعب دور الحارس الأمين للاحتلال.

يا مرحبا بدولة سيادة القانون.. وبإبر الديمقراطية التي تحقن بها أبناء شعبنا في الضفة المحتلة.. وأشد على يديك بأنه لا يحق لأحدٍ كان أن يحقن نفسه بإبر وأجندات خارجية كانت سبباً في تعطيل الانتخابات المحلية الأخيرة !! .. فالديمقراطية الحقة والتي تصل بنا لحلم الدولة الموعودة هو المحافظة عما تبقى من كرامتك وأن تصمت.. وتصمت.. فلا صوت يعلو فوق صوت القانون والمؤسسات!!! فالصمت في حرم دولتك سيدي فياض جمال!!

سيدي الكريم فياض.. استأذن وأطلب منك تسهيل مهمة إعطاء تصريح لي بمزاولة فلسطينيتي ومغادرة ضميري.... وإنسانيتي.. فلا داعي لها في حضرة سيادتكم وحكمتكم البالغة وحرصكم على انسياب الهدوء من نوافذنا... فلا يحق لي وللشهيد الجولاني وللصامدين في القدس المحتلة ولأهالي عراق بورين وللمحاصرين في غزة.. ولمنفذي عملية الخليل البطولية أن يمارسوا فضيلتهم بالمقاومة وحقهم بالدفاع عن النفس..

أصبح الأمر مملاً ومقرفاً جداً سيدي فياض.. عندما أسمع تراهاتك تراودني رغبة حقيقية في التقيؤ.. وتأتيني رغبة جارفة في الرحيل بعيداً حاملاً هويتي وثقافتي وكرامتي ومقاومتي خارج حدود دولتك المسكينة.. باتجاه الدولة الحقيقية فلسطين الواحدة كاملة التراب والتي لا تقبل القسمة على اثنين.

( انتهى)

الأحد، 13 يونيو 2010

كأس العالم وحركة فتح !!

أبو كنعــــــان

يبدو أن حمى كأس العالم اجتاحت تصرفات أعضاء حركة فتح وطالت الناطقين باسمها ليصرحوا بأشياء بعيدة عن المنطق تماماً تكشف عمق الأزمة التي تعاني منها الحركة.. أزمة ثقة جعلتها عاجزة تماماً عن تشكيل قوائم موحدة وقوية ومناسبة في قرى ومدن الضفة الفلسطينية المحتلة، كانت سبباً رئيسياً في اتخاذ حكومة فياض - بضغط فتحاوي- قراراً بتأجيل هذه الانتخابات إلى أجلٍ غير مسمى.

صاغت حركة فتح تبريرات وأسباب وحجج واهية لقرارها التأجيل، ولم يتبقَ لها سوى كأس العالم الذي افتتحت فعالياته الجمعة الماضي لتلقى اللائمة عليه، وتبرر هذا التأجيل بانشغال جماهيرنا بالضفة المحتلة بالبطولة العالمية على حساب الانتخابات المحلية، الأمر الذي قد يفقد فتح أصوات جمهورها وفوزها الساحق في جميع المناطق !!!!!

سؤال يتبادر لذهني دائماً وأود توجيهه لقادة ومتحدثي حركة فتح. متى تدركون أن الواقع تغير، وأنكم لستم اللاعب الحقيقي على الأرض، وأنه لا يحق لكم تقرير مصير مستقبلنا، واعتبار أفعالكم ومواقفكم شرع وقوانين ربانية ملزمة لشعبنا هبطت عليه من السماء!!.

ضحكت عندما رأيت التصريح المتعثر والمرتبك لأحمد عساف المتحدث باسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح وهو يكيل الاتهامات جزافاً على فصائل فلسطينية عارضت قرار حكومة فياض تأجيل الانتخابات، وضحكت أكثر عندما وصفها بالانتهازية السياسية... وقصر النظر، وأنهم يسعون لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المصالح العليا للشعب الفلسطيني؟؟؟، وكأنه – أي عساف - في تصريحه الغريب يحاول امتصاص الحقيقة المتأصلة داخله وهي أن حركته فشلت أيضاً في سوق تبريرات واضحة ومعقولة لقرار تأجيل الانتخابات يضاف لقرار التأجيل نفسه.

أليس قرار التأجيل وحرمان الشعب الفلسطيني من التعبير عن رأيه بانتخاب ما يراه مناسباً هو قمة الانتهازية السياسية أخي عساف !!، وهل أضحت الحركة بتأجيلها الانتخابات في صالح المجموع الفلسطيني الذي رفض هذه الخطوة!!!

أريدك يا عساف أن تعلمنا ديمقراطية المدينة الفاضلة الفتحاوية حتى نبتعد عن أهدافنا الخبيثة من تحقيق مكاسب ومصالح شخصية ومواقع، ومن استثمارنا لديمقراطيتكم التي توزعونها كالورود على جمهور الضفة المحتلة!!!

يتناقض عساف في تصريحه مع نفسه فتارة يسوق المبررات لخطوة فتح بتأجيل الانتخابات، وتارة يحذر من التطاول علي فتح وعلى إنجازاتها الديمقراطية !!! فكيف يستقيم قرار التأجيل بإنجازات الديمقراطية!! سؤالي المباشر لعساف ؟

الجميع يعرف، الصغير قبل الكبير، الفتحاوي العادي قبل القيادي أن قرار تأجيل الانتخابات نابع عن فشل ذريع لحركة فتح في تشكيل قوائمها وتخوفها من نتائج الانتخابات، خاصة وأن سيناريو هزيمتها في الانتخابات السابقة يلوح في الأفق، حيث أنها تخشى السقوط هذه المرة أمام تحالف قوى اليسار الفلسطيني والمستقلين، فضلاً عن اتجاه بعض القيادات الفتحاوية لعشيرته لأنه يثق بها أكثر من حركة فتح نفسه، بالإضافة إلى عدم توافقها على قائمة موحدة للحركة والدليل على ذلك ترشيح أمين مقبول للبلدية، في الوقت الذي رشح غسان الشكعة نفسه لهذه الانتخابات.

ولذلك، لا أعتقد أن الكوابيس التي تراود حركة فتح من استمرار الانقسام، ورغبتها في إنهاءه والاتجاه نحو المصالحة، هو من جعلها تتعاطى مع قرار التأجيل وكأنه تلبية لنداءات عربية ووطنية ولمصالح الشعب الفلسطيني العليا، وكأن مصالح شعبنا وإنهاء حالة الانقسام مرتبطة كالحبل السري بالقرار الفتحاوي بتأجيل الانتخاب، ولا يمكن أن تتحقق المصالحة إلا إذا تأجلت الانتخابات المحلية في الضفة!! فنعم قرار التأجيل وموقف فتح الحكيم !!!.

للأسف، أحمد عساف في تصريحه غير المبرر على الإطلاق يطعن الديمقراطية الفلسطينية في الظهر، ويوجه كيل من الاتهامات الخطيرة لفصائل فلسطينية معارضة تنافست مع فتح، وشكلت قوائمها بشكل يتيحه القانون ونجحت في ذلك تماماً، ولكن الأخطر هو اتهام هذه الفصائل بخدمة أجندات خارجية لا صلة لها بالقضية الفلسطينية على حساب المصلحة العليا لشعبنا، يجب التدقيق ملياً في أهداف وتبعات هذا التصريح، ويجب على جماهير شعبنا وقواه السياسية والوطنية وحتى الشرفاء في حركة فتح ألا يمروا مرور الكرام على هذا الاتهام الخطير، ويجب على الحركة محاسبته، لأنها تصريحات خطيرة بالفعل.

للأسف يا عساف " فوبيا السيطرة والنظرة الفئوية الحزبية الضيقة" التي تعاني منها حركة فتح، هي رؤيتها الحقيقية الملموسة على الأرض وليست كما تدعّي رؤية وطنية شاملة.

ايضاً، أستغرب ربط وعزوف بعض الفصائل عن التحالف مع حركة فتح في هذه الانتخابات، بالخشية من إغضابها إيران وغيرها من دول الإقليم!!!! فما علاقة انتخابات ديمقراطية كانت ستحدث وسيشارك كل فصيل وقائمة ببرنامجها، ومن سيحظى ثقة الناس سيفوز !!!!، إن هذه محاولة مكشوفة هدفها نزع الشرعية القانونية عن هذه الانتخابات، وجر الوضع الفلسطيني لتصعيد خطير يطال الحريات العامة التي يكفلها القانون، وهي حق الناس في اختيار الجهة التي تراها مناسبة.

يستمر أحمد عساف في عزف مقطوعته التناقضية في تصريحه الغريب، حيث يقطع الشك باليقين ويؤكد أن حركة فتح نجحت فعلياً في تشكيل قوائم موحدة في جميع المناطق !! في حين أنه في نفس التصريح يناقض كلامه بالقول " أن الدكتاتوريات الصغيرة مارست الإرهاب بحق خيرة كوادرها وأجبرتهم على الانسحاب من العملية الديمقراطية!!! "، أتمنى على عساف الإجابة " هل تشكلت قوائم لفتح، أم انسحبت !!!؟ حيرتنا يا رجل .

التجربة تقول، أنه لا يمكن لحركة فتح أن تكيل الاتهامات لبعض الفصائل بالفساد الذي راكم واستشرى سنوات عديدة داخل مؤسساتها، والذي أصبح سمة عملها، وسبباً رئيسياً في خسارتها الانتخابات أمام شعبها أولاً قبل خسارتها أمام حركة حماس.

إن تصريح عساف الذي تمنطق به وكأنه أرسطو عصره وزمانه، وتفاخره بما أقدمت عليه حركة فتح من قتل الديمقراطية، لا يصب في المصلحة الوطنية، ولا في جهود انهاء الانقسام والمصالحة، وعلى الحركة أن تعترف بفشلها الجديد على هذا الصعيد، وألا تدافع عن قرار التأجيل عبر تصريحات واهية تحفظ ماء وجهها الذي سكبت عليه ماء النار، ففشلها لا يفقدها قيمة بوزن كأس العالم مثلاً، بل يفقدها قيمة اكبر وأكبر وهي شعبها ووزنها وتاريخها ومصداقيتها التي تآكلت كثيراً.. فعودوا لرشدكم..

ُ( انتهى)

الجمعة، 4 يونيو 2010

غزة تعانق الزوربا اليونانية...

أبو كنعان


أعيانا التعب ونحن ننظر بلهفة بالغة لأمواج بحر غزة المتلاطمة وهي تنهب البحر بهديرها الغاضب لعلها تأتينا بأخبار جديدة عن أسطول الحرية، التي أذاعت وسائل الإعلام اقترابه رويداً رويداً من مياه غزة... أصابنا طول الانتظار بالدوار في ليلة ما قبل الحادث الأليم ...هزمنا التعب ولكن بقينا مسكونين بالأمل أن يأتي القمر الذي يتلصص بنوره على المياه المترامية الأطراف بالخبر اليقين عن مصير الأسطول.. كنا نتوقع معركة مباشرة بين المتضامنين والاحتلال الإسرائيلي الذين توعدوهم بمنعهم من الوصول إلى شاطئ غزة... لم يذهب تفكيرنا بأبعد أن تكون معركة المواجهة المباشرة معهم هي معركة صمود وتحدي.. معركة كر وفر.. ينجح المتضامنون فيه بالوصول لهدفهم المنشود أو لا.. ولم نتوقع مجزرة صهيونية أصابت الإنسانية جمعاء بالصدمة والغضب والجزع.. جريمة مسحت القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وقوانين حقوق الإنسان وحماية المدنيين والعزل بأقدام قوات الكوماندز الإسرائيلية الجبناء.....

تخلصنا من هول الصدمة وأدركنا عندها أن ما حدث كان امتداداً طبيعياً لما عرفناه وعايشناه من جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ولكن هذه المرة اجتازتنا هذه الجرائم لتصيب في مقتل العالم الحر كله، وكشفت الوجه الحقيقي للاحتلال، ولشريعة الغاب التي ترأسها الولايات المتحدة الأمريكية المناوءة للاحتلال.

تابعت عن كثب مآل الجريمة البشعة، وردود الفعل الغاضبة من جميع أنحاء العالم، وسبحت بعاطفتي وتضامني مع الشهداء الذين سقطوا في الأسطول عبر تصفح مواقع الانترنت بعد أن فجعت عيناي ومسامعي بما تعرضه الفضائيات من أخبار مكررة حول هذه الكارثة، وبعد أن أصبت بعطب شديد في التركيز نتيجة الإرهاق الشديد وقلة النوم، والغضب المكبوت الذي سرى في جسمي، وإذ برسالة معروفة العنوان محببة إلى قلبي تصلني على بريدي الالكتروني.. وجاءت لتخلصني ولو لدقائق معدودة مما أصابني والجميع من هول الجريمة الإسرائيلية.

كانت رسالة باللغة العربية من بريد الكتروني ملقمه يوناني، مزدانة بالموسيقى الحزينة المشهورة للموسيقار اليوناني NICO، وبذل صاحب الرسالة جهداً كبيراً في إثراء عبارات الرسالة بعبارات حزينة، متعاطفة، متأثرة، رغم عدم اتقانه للغة العربية بشكلٍ كامل يستطيع من خلاله إيصال حجم العاطفة والحزن الجياش الصادر عنه جراء الجريمة الصهيونية في عرض البحر.

مضمون الرسالة لم يكن بعيداً عن مشاعري التي تأثرت بالحادث، وإن كان الشئ الجديد فيها دعوة للتضامن من الشعب اليوناني للشعب الفلسطيني ولشهداء الأسطول.. من شعبٍ كان يضم الأسطول نفسه متضامنين منهم. وعلمهم يرفرف شامخاً بجوار أعلام فلسطين وتركيا والجزائر وأعلام البلدان الأخرى..

لهذا عشقت اليونان وأهلها.... صحيح أن عشقي الأبدي المجنون هو لوطني فلسطين، إلا أنه لا يعني ذلك اغفال كريات عشق حمراء تجري في عروقي وتمتزج رويداً رويداً بأوصالي وتهتف تارة باسم فلسطين.. وأخرى باسم رديفتها بالعشق " اليونان" ( هيلاس) .

قد يتساءل البعض عن هذا السر الكامن بداخلي، والذي جعل اليونان مختلفة اللغة والهوية والعادات والتقاليد منافساً حقيقياً لعشقي فلسطين رغم أنني لم أزرها يوماً ولم ينجذب قلبي ويخفق لإحدى الأثينيات مثلاً ... وليس لأن اليونان كانت تمثل طفولة البشرية الأولى، ومهد الحضارة الإنسانية، وفيها ترعرعت الديمقراطية والفلسفة والحضارة الغربية، ولا لأنها في بعض فترات حياتها اتبعت سياسة داعمة لقضيتنا الفلسطينية العادلة، وليس لطبيعتها الساحرة .. ولا لتشابه الملامح الغريب بين الفلسطيني واليوناني.. بل لأن سيدة يونانية اسمها بيلاجيا – وهي بالتأكيد صاحبة الرسالة- التقيتها أول مرة في ربيع 2002 على الحدود المصرية – الفلسطينية، ألهمتني وأسقتني ترياق عشقي الجديد لليونان.. وجعلت لها مكانة خاصة في قلبي بجوار فلسطين.

لم تألو ذاكرتي جهداً في الاحتفاظ بلحظات لقاءاتي القليلة معها وجهاً لوجه بين جنبات مخيمات رفح وخان يونس وغزة، وبعد تصاعد الأمور في قطاع غزة عام 2003 ومغادرتها والأجانب وحركات التضامن نتيجة القصف الإسرائيلي العنيف آنذاك، أصبح الفضاء الافتراضي وسيلتي الوحيدة للتواصل معها، فتابعت بيلاجيا عن كثب الأوضاع الفلسطينية، وكنا بين الحين والآخر نتبادل الرسائل عن مجمل الأوضاع الفلسطينية، وأحياناً تأخذ هذه الرسائل طابع الحوارات (الاستفسار والأسئلة والإجابة). بالسياق العام كنا أمام امرأة تفتحت لهفتها الشديدة وتألمت وحزنت وبكت لمآل الوضع الفلسطيني القائم لتأخذ بأدق التفاصيل التفاصيل عنه.. كأنها عربية الانتماء، فلسطينية الهوية، وتنوع مشاربها لترسل لي رأيها اليومي أو استفسارها من موضوع أو حادثة ما، وبعد مرور سنوات على حوارنا المتواصل، ومنذ أن أخبرتني أخيراً أنها ستلتحق بقافلة أسطول الحرية المتوجه لغزة( تراجعت لمرضها)، أيقنت أهمية سرد المادة الحوارية التي دارت بيني وبينها اعدة سنوات لأهميتها.

لم يكن وجودها في منطقة ساخنة كرفح رغبة منها في التمتع بالجو الربيعي أو الاستجمام في رمال رفح الحارقة، أو حضور قداس في ليلة عيد الميلاد بكنيسة قرب الحدود، بل التصدي لجرافات الاحتلال التي تتقدم باتجاه الأرض الفلسطينية لتفقدها ربيعها، وبيوتها أهلها، وأطفالها كتبهم المدرسية ولعبهم، وشبابها مستقبلهم وأحلامهم.

لم تغادر ملامحها ذاكرتي المريضة بالنسيان ووجع الحياة كل هذه السنوات ولعل حادث الأسطول الجلل، جعل ملامحها ترتسم أمامي كأنها موجودة وجهاً لوجه أمامي، كانت امرأة في نهاية الأربعينيات، اغريقية الملامح.. طويلة القامة كمرتفعات ليندوس ، نحيفة الجسم، غلب شعرها البياض كالثلوج التي تسقط على جبل أوليمبوس في شتاءٍ قارصٍ، تمتلكان عينان زرقاوتان حادتان كالبحر الهادر الذي يحيط بجزيرة كريت، كانت فارسة بمعنى الكلمة كاخليس المحارب اليوناني الاسطوري، تتحدث العربية بأسلوب ركيك مفهوم.. وأحياناً تتمتم بالإنجليزية التي تجيدها بطلاقة.. وإن غضبت من أمرٍ ما أطلقت ليونانيتها العنان بسباب وصراخ غير مفهوم المعالم.

أكسبتها شجاعتها وشجاعة جميع المتضامنين الأجانب في الدفاع المستميت عن أهالي مخيم رفح المنكوب احترام الجميع، وبدت كقديسة يونانية تضاهي حكمة أفلاطون أعظم فلاسفة اليونان، وجرأة سقراط ودفاعه عن حريته باستماتة والتي دفع حياته ثمناً لها، وانشداد أرسطو لحرية العيش بسلام وطمأنينة، إلا أنها كانت شرسة وقوية كمقاتلة اسبرطية قديمة، برز ذلك واضحاً في استماتتها في محاولة منع تقدم البلدوزارت الصهيونية تجاه المنازل الفلسطينية رغم تقدم سنها.

كانت رومانسية الروح، عميقة المشاعر.. تعشق الفلكلور اليوناني.. خاصة موسيقى الزوربا الشهيرة.. متفوقة على رقصة الممثل القدير " أنطون كوين " الشهيرة بفيلمه الخالد " زوربا اليوناني"، كما وعشقت الدبكة الشعبية الفلسطينية واعتبرت الدبكة والزوربا امتداد لتراث أصيل لشعبين طالما عبرا عن حبهما لبعضهما البعض، ورثت عن جدتها حبها لأغاني سيد درويش، حيث عاشت هذه الجدة بمدينة الإسكندرية.. تلك المدينة التي امتزجت بها الشخصية العربية السكندرية وتعمّدت بالشخصية اليونانية، ونتيجة لذلك ليس غريباً أن تتطبع الشخصية السكندرية بطابع وروح الحضارة اليونانية العاشقة للحياة، وبرز ذلك في وقوف اليونانيين مع إخوانهم المصريين بنضالهم ضد الاستعمار البريطاني.

كانت تفترش الأرض على الحدود المصرية عندما تعرفت عليها، وتنظر بحسرة بالغة لشجرة زيتون اقتلعتها جرافة صهيونية مع سور منزل لا يبعد كثيراً عن الحدود، وسألتها من باب الفضول بالانجليزية " عن جنسيتها وسبب تأثرها الشديد من رؤية شجرة زيتون وقد اُقتلعت من الأرض"، على اعتبار أن هناك مشاهد أكثر مأساوية أصابت المنطقة، كما وأن الأهالي هناك تعودوا على مشاهد الدمار والهدم وحتى الدماء".

تهللت أساريرها وكأنها تمنت أن ينفض أحد ما الحزن الكامن بداخلها وابتسمت وقالت بعربية ركيكة " أنا يونانية، أعشق الثقافة العربية، وأؤيد القضية الفلسطينية، ارتبطت فيها منذ سنوات المراهقة وعاصرت أحداثها وتفاصيلها، حيث نشأت في عائلة أكثر اقتراباً للعرب وهمومهم وقضيتهم من أصولها الأوروبية".

شدني حديثها، وقادني لسؤالها عن الظروف التي أثرت عليها، وأدت بها لأن تكون في بقعة تعتبر من أشد المناطق الفلسطينية سخونة وخطورة، قالت لي: " جئت هنا لوحدي، بعد معاناة كبيرة نتيجة رفض الاحتلال دخولي في البداية، حيث لم أكن أحمل بطاقة صحافية أو تنسيق من السفارة اليونانية لدخول القطاع، ولم أكن عضوة بأي حركة من حركات التضامن التي تنتشر في قطاع غزة، إلا أن إصراري على دخول القطاع أدى بالسفارة اليونانية للتنسيق لي ودخول القطاع للمرة الأولى في حياتي، فقد كانت زيارتي عفوية جداً، ونتيجة لعهد قطعته على نفسي أن أزور هذا القطاع وهذه البقعة ( رفح) بالذات، وحكاية هذا العهد بدأت عندما كنت بإحدى مستشفيات القاهرة لزيارة ابنة صديقة مريضة، هالني مشهد طفلٍ صغير ينتمي لمدينة رفح يصارع الموت في احدى مستشفيات القاهرة نتيجة إصابته إصابة خطيرة في جميع أنحاء جسده، جراء إطلاق قوات الاحتلال عليه قذيفة دبابة في إحدى توغلاتها وعدوانها اليومي على أحياء مخيم رفح، وزاد من هول الصدمة ما أخبرني به الطبيب المعالج للطفل أن ردهات وغرف المستشفى وغرف العناية المركزية مليئة بإصابات مماثلة لأطفال أصيبوا من العدوان الإسرائيلي المتواصل على مناطق مختلفة في القطاع خاصة بمنطقة رفح.

عندها استطردت بيلاجيا وأجابتني على سؤالي السابق وقالت " إن سر حزني على شجرة الزيتون التي اقتلعها الاحتلال هو حبي لهذه الشجرة التي تتزين بها جميع أنحاء اليونان كما فلسطين، وجزعي لاقتلاع هذه الشجرة هو أنني أرى دائماً هذه الشجرة شامخة لم أتعود أن تبلغ البشرية يوماً حد الدناءة والجبن لاقتلاع هذه الشجرة بالذات".

لا أستطيع سرد جميع الرسائل التي وصلتني من بيلاجيا، أو ردودها على رسائلي ولكن لأهمية مضمون بعضها، والتي استطعت فيها تحديد معالم وأهمية التضامن الدولي مع قضيتنا الوطنية، وجدت في هذه الرسائل كنزاً معرفياً ليونانية انغرست في المشهد الفلسطيني كأنها فلسطينية فعلاً، كان سر سعادتها الدائم، وحتى لوغاريثم انسياب دموعها على وجنتيها، أمر مرتبط بالقضية الفلسطينية.

أخبرتني أن سعادتها البالغة تملكتها في الماضي وهي ترى الشعب الفلسطيني يقود مسيرة النضال الفلسطيني ويبادر بالانتفاضة الشعبية الأولى، واعتبرت استمرارها مفتاح الحل للقضية التي شغلتها، ولكنها بكت بعدها عندما وقعت القيادة الفلسطينية بالفخ ووقعت اتفاقية السلام، عندها أيقنت أن القيادة الفلسطينية قد طعنت شعبها في ظهره.

تردد دائماً في تعقيبها على مواقف وسلوكيات القيادة الفلسطينية " يا لهذه القيادة الغبية !!! حاصرت شعبها.. وجوعته.. وحشرته في الزاوية من أجل سراب "..

عبرّت في مناسبات عدة عن احترامها الشديد وحبها للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكانت ترى فيها الأمل، واعتبرت مؤسسها الدكتور جورج حبش قديس النضال الفلسطيني، الذي لم تنحرف بوصلته قط عن مسارها... لم تخفِ إعجابها بالأديب الراحل غسان كنفاني وكيف قاتلت يوماً من أجل الحصول على رائعته " رجال في الشمس" مترجمة باللغة اليونانية...

كانت تمتلك عمقاً سياسياً بالقضية الفلسطينية وموقفاً محترماً لا تستطيع كتيبة من قيادات السلطة المترهلة الإلمام أو الإحساس بها.. حزنت كثيراَ مما حملته الرياح الآتية إليها من الأراضي الفلسطينية من انقسام واقتتال فلسطيني. واعتبرته أشد قسوة من بذور السلام التي سممت الأرض الفلسطينية.

تحتفظ في بيتها بصورة كبيرة للطفل الفلسطيني " فارس عودة" وهو يواجه بحجره دبابة كبيرة على تخوم غزة، وصفته بالمقاتل الأسبرطي الذي واجه العواصف وخاض غمار المعارك بيديه العاريتين وانتصرت شجاعته في النهاية، لخصت المشهد الفلسطيني آنذاك بالقول: " إن المستقبل سيقول كلمته أخيراً للفلسطينيين، فإن شجاعة طفل فلسطيني يقف بصدره العاري ويواجه جنود يستترون داخل دبابة مدججة بمختلف الأسلحة ستنتصر أخيراً".

بكت يوم استشهاد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، رغم أنها عارضت جزءه الثاني من حياته، أدركت بعد اشتعال الانتفاضة الثانية أن عرفات يحاول استعادة بريق ثورته ونفض تبعات أوسلو عنها، ولكن الموت الإسرائيلي لم يمهله كثيراً في تصحيح مساره القديم، لهذا بكت وبكت كثيراً وكأنها فلسطينية الجنسية المستقبل الفلسطيني يهمها، وكل المشهد اليوناني والحياة هناك لا يعنيها..

سبب العلاقة المتميزة بيني وبينها أن أفكارنا كانت متوحدة في المواقف والثوابت والآراء والمشاكسة بالمواقف والعناد، رغم فلسطينيتي ويونانيتها، كانت تقول لي لدائماً "أنت ابني الذي لم أنجبه".

كان يجمعنا حب العمل ، وإن تضايقت كثيراً من انشغالي بالعمل أحياناً عن الرد على رسائلها العديدة، وإن خالفتني أيضاً في حب الفرنسيات، فكانت بشكل تهكمي ساخر تصفهن بالثرثارات والفوضويات، معتبرة ارتباط الفلسطيني بهن خطأ تاريخي قاتل.

رفضت باستمرار طلبي منها التوقف عن التدخين، فقد كانت تدخن بشراهة كبيرة، وكانت تعتبر التدخين وسيلتها الوحيدة للتعبير عن غضبها من هذا العالم.

باختصار، سكن إله الحرية داخلها، أعطاها عنفواناً وقدرة غير عادية على الصمود والاحتمال، كان بريدها الالكتروني يحتوي على خاطرة اقتبستها من جملة شهيرة لسقراط عند محاكمته: " ليس على الأرض إنسان له الحق في أن يملي على الآخر ما يجب أن يؤمن به أو يحرمه من حق التفكير كما يهوي..يجب عليهم أن يتركوا الناس أحراراً".

عرفت أخيراً أن السبب الرئيسي الوحيد في عدم التحاقها في أسطول الحرية، هو استفحال المرض بداخلها.الذي أرقدها بيتها وأبعدها عن عملها ونشاطها، عندها أدركت أن هذا المرض اللعين أوقف زهرة حرة يانعة، كما أوقف الاحتلال الإسرائيلي الأسطول في عرض البحر وما تبعه من جريمة نكراء.

تضامننا الشديد معها، ومعهم، تمنياتنا بالشفاء العاجل لها ولهم، لن ننسى تضحياتها وتضحياتهم، يوماً ما سيكون ضمائر هؤلاء الأحرار جسراً لنا لتحقيق مرادنا في الاستقلال والعودة.

( انتهى)