الجمعة، 26 ديسمبر 2014

نحو فهم أعمق للمثقف السلطوي


أيمن أنور

أوسلو وصعود (المثقف) السلطوي:

مما لاشك فيه أن صعود المثقف السلطوي ( كاتب، صحفي، سياسي، اقتصادي، نخبوي سلطوي..إلخ) المسلح بدعم السلطة ومواقفها وبرامجها بديلاً عن المثقف الوطني الحقيقي، أدى إلى حدوث شرخ كبير في الوعي الجمعي الفلسطيني، ومحاولات لإسقاط القيم التحررية النضالية الفلسطينية وهويتنا الوطنية، واستبدالها بأفكار انهزامية واقعية دفعت الكثير من هؤلاء ( المثقفين) إلى الكفر بالوطنية والغوص في مستنقع أهداف وخبائث اتفاقية "أوسلو"، واحتراف نهج الارتزاق السياسي كهدف، وإلى استهداف تغييب العقل الفلسطيني، من أجل زرع الأفكار السلطوية الرثة والاندماج الكامل في برنامج التسوية والتطبيع مع الاحتلال وأفكار السلام، والهجوم المستمر على المقاومة ووصفها بالعبثية.

لقد شكّل التوقيع على اتفاقية "أوسلو" تحولات فكرية ونزعات انتهازية تسلقية أسست ما يُعرف بـ"سماسرة الوطن"، الذين تاجروا واستثمروا بالقيم والمبادئ من أجل تحقيق المصالح الخاصة، ودافعوا وما زالوا بشكل محموم عن السلطة وأجهزتها الأمنية، حيث تحوّلت أراضي السلطة في ظل هؤلاء إلى بازار لعرض سلع السلطة الفاسدة الرخيصة الثمن، ناهيك عن محاولات مكثفة لتجريد المواطن الفلسطيني من أي قيم ومضامين ثورية.

وفي هذا السياق، يشير الكاتب خليل نخلة في كتابه الهام " فلسطين ليست للبيع" إلى أن تدفق المال الأجنبي بأجندات سياسية أدى لتداعيات خطيرة على القضية الفلسطينية عامة، وخلق تناقضات جوهرية ورئيسية مع مفهوم التنمية التحريرية التي يحتاجها شعب ما زال محكوماً للاحتلال".
ويؤكد الكاتب إلى" أن إقامة سلطة "أوسلو" ليست سوى محاولة لإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني، بما يشمل تغيير القيم الثقافية، وإلى محاولات عدد من الأشخاص التقارب مع طغيان سلطة "فتح" في ظل تحكم وكالات التمويل العابرة للحدود مثل البنك الدولي، والوكالة الأمريكية للتنمية (USAID) في شراء الموقف الفلسطيني".

أسرلة العقل الفلسطيني بقيود الدعوة للدين الجديد ( أوسلو):
سعت سلطة "أوسلو" منذ بداية تأسيسها لضمان استقرارها دون أي منغصات ومشاغبات إلى محاولات ممنهجة لتقييد العقل وأسرلته داخل قيود برنامجية سعت وما زالت إلى استبدال قيم النضال التي اكتسبها وورثها شعبنا الفلسطيني من خلال الدعوة إلى الدين الجديد ( أوسلو) وقيمه ومبادئه الرثة والكارثية. ولقد أظهرت من أجل ذلك أبواق ثقافية وإعلامية عديدة تبوأت مناصب هامة في الوزارات والمؤسسات والمراكز الثقافية والإعلامية، أعُطيت الأوامر لها للتبشير للدين الجديد، ومحاولات تغييب العقل والوعي الفلسطيني، بإشراف مباشر من أجهزتها الأمنية. وما زالت هذه الأبواق تعمل في ظل بيئة حاضنة لاتجاهاتهم. ولا مشكلة أن تجد رئيس التحرير في هذه الوكالة أو تلك يعمل كضابط في جهاز أمني، وفي الوقت ذاته يعرض نفسه أمام الناس (كمثقف وطني) لديه آراء مستقلة عن أجندة عمله، يحاول تسويقها لمآرب وأهداف ومصالح شخصية. ولا مشكلة أيضاً أن يتاجر هذا "المثقف" بالمال السياسي، وأن يخرج عن طوع السلطة ويتمرد عليها في بعض الأوقات، أو يغرد خارج حدودها بحثاً عن التمويل الشخصي لأفكاره ومعتقداته ووكالاته الإعلامية أو مراكزه الثقافية، ومن الطبيعي أن يغير ولاءاته وأفكاره وفق رأي وأهداف الممول. ولا مشكلة أن يدافع هذا "المثقف" عن الديمقراطية ويتشدق بها، ويسوق نفسه للناس بأنه ممانع ومكافح للفساد السلطوي رغم أنه في قاعها، وعلى منبر آخر ينشغل باستثماراته والبيزنس واعلانات فضائياته وشركاته.

في هذا السياق،" يرفض المفكر الدكتور عادل سمارة في مداخلات فكرية عديدة له حالة التحوّل الفكري الثقافية للمثقف إلى مجرد موظف أو محطة لتصليح حافلات السلطة، داعياً لضرورة أن يبقى المثقف مستمراً في تحليل حقائق الحياة والتعبير عن رأيه دون الاضطرار إلى مراعاة دبلوماسية السلطة".
 كما كشف الدكتور سمارة عن عيب خطير في الحالة الفلسطينية ممثلاً في غياب النقد الفكري المعمق ، معترفاً أن من يقف ضد النقد هو الأموال السوداء المسمومة من السلطة والمانحين ومنظمات الأنجزة"’
إذن، لقد وقع العقل الفلسطيني في شرك السلطة، وخدعة الديمقراطية التي يبشر بها هؤلاء، وتجري محاولات عديدة لتغييب هذا العقل تماماً عبر برامج مكثفة. وبرأينا، التصدي لهذا الموضوع الخطير، لا يكمن من خلال تجاهل هذه المحاولات عن طريق الصمت أو الاستسلام لهذا الواقع، أو الابتعاد عن بيئته الحاضنة، بل بضرورة إطلاق العنان لطاقات العمل، كما قال الفيلسوف الفرنسي الشهير " ديكارت". ومن هنا يقع على عاتق المثقف الحقيقي الوطني وعاتقنا جميعاً إلى خلق برامج مضادة تستوعب كل الطاقات والعقول الوطنية والمثمرة للرد على هؤلاء وتحجيم دورهم، وصولاً لنبذهم.

وفي سياق هذا الهدف، يدعونا الدكتور أحمد قطامش لخلق طريقة تفكير جديدة، مؤكداً أن ليس ثمة فرصة لأي مخرج من المأزق والعقل الفلسطيني أسير، ومن هنا تأتي ضرورة إعادة صياغة المخرج على قاعدة الكفاءة بعيداً عن الولاءات السياسية.

المثقف السلطوي بوق الفساد الشامل، والناطق الرسمي باسم مؤسسة الهزيمة الفلسطينية:
لم يكن لجوء مثقفي السلطة باعتبارهم ركن هام من أركانها إلى شن حرب إعلامية بالوكالة عن قيادة السلطة إلا لتدجين الواقع خدمة للبرامج الهابطة عبر محاولات وصف المقاومة بالإرهاب، وتبرير سلوك السلطة بالتنسيق الأمني، وممارساتها المتواصلة، ومشاريعها السياسية الهابطة، وسياساتها الأمنية والاقتصادية. ولقد أسست من أجل تسويق هذا الهدف مراكز ثقافية وصحافية ومواقع الكترونية لعبت دوراً هاماً في انتشار هذا الفكر الاستسلامي، وإلى اعتناق الكثير تحت مسمى "الواقعية" وتحت سوط ابتزاز المال السلطوي هذه الأفكار. ومن ضمن استهدافات هذه المراكز محاولات خلق جيل جديد يفكر وينشغل بالأفكار السطحية ومغريات العولمة وسلبياتها، فضلاً عن زرع الأفكار الانتهازية على حساب التفكير الجمعي بهموم الوطن، عبر محاولة اقناعه بعبثية المقاومة، وضيق أفق المستقبل، وزرع بذور الهزيمة والاستسلام داخله.
ندرك أن تغير الواقع من وقت لآخر يستوجب منا ضرورة تغيير أدوات النضال وفق هذا التغير.. وفق أدوات تستند إلى جدران صلبة من المبادئ والصلابة والتحدي، وذلك من أجل مواجهة جيش كبير من اشباه المثقفين التي قامت السلطة بصناعتهم وتدريبهم.

وفي وصف دقيق لهؤلاء المثقفين، يؤكد الرفيق خالد بركات في مقالة له هؤلاء بأن كل شئ لهؤلاء المثقفين  قابل للبيع والشراء والعرض والطلب، وكل حالة فلسطينية نبيلة ومقاتلة يمكن أن تخضع لمنطق السوق والصفقة التجارية عندهم. إن للمثقف الأوسلوي (فلسطينيته) الخاصة و(وطنه) الجديد، وهي ليست سوى دونمات ومناطق وبيزنس، ولأنه تاجر ديمقراطي ويعرف السوق جيداً، برر كل كوارثه باستعارات هزيلة ومقلوبة عن الواقعية السياسية، ومعنى الإصلاح الديمقراطي. إن هذا المثقف (الفلسطيني) هو بوق الفساد الشامل، والناطق الرسمي باسم مؤسسة الهزيمة (السلطة) الفلسطينية.

يكفي لهؤلاء السماسرة أن ينشئوا سوبر ماركت لنشر بضاعتهم الإعلامية ويكتبوا عن الوطن وهم داخل حضن أوسلو، يتهموك بأنك غير ديمقراطي وتنتهك مبادئ الحداثة وحرية الرأي لأنك رفضت فكرهم الانهزامي وبرامجهم الخبيثة وأكاذيبهم المدجنة والمعلبّة لتخدير العقل والمستوردة والمسمومة والموجهة لحرف عقول شبابنا. لا مشكلة لهؤلاء أن يتاجروا بالمناضلين والشهداء والأسرى وأن يطلقوا الاستفتاءات من أجل ذلك، طالما أنها تحقق لهم أموالاً باهظة ... لا مشكلة أن يُدفعوا لصنع استفتاء لشخصيات من الموالاة داخل الحزب السلطوي الكبير من أجل محاولات انتخابية لزعزعة استقرار ونسبة فوز أي أسماء قيادية مناهضة لتلك الموالاة في أي نتائج قادمة في مؤتمر الحزب. وليس غريباً أن يلغي هذا السوبرماركت الاستفتاء بسبب تهديد. وأن ينتقدهم في الوقت ذاته وكله باسم الديمقراطية!! ولا عجب أن يُوضع أسماء الأسرى كسلعة في إطار المقارنات واختيار الأفضل منهم!!، وهم الذين لم يعيشوا في حياتهم ظروف الأسرى ومعاناتهم. ليس مشكلة أن تتصدر وكالة ذلك المثقف والصحافي تمريرات معينة ومستهدفة من اخبار الإعلام الصهيوني والتي بمجملها تحبط العزائم وتسوق لأجندات الاحتلال، في حين أنه لم يحاول أن يدخر وسعاً في الاهتمام أكثر بترجمة معمقة وشاملة لما يحدث داخل الكيان الصهيوني الهش، وحالة الفساد الشاملة التي تعصف بالمجتمع وفي المشهد السياسي.
محاولة شيطنة المثقف الوطني باسم الديمقراطية ولغة أنصاف الحلول:
رغم البيئة المسمومة التي خلقتها اتفاقيات الذل "أوسلو" وسلطة الحكم الذاتي الهزيلة، إلا أن هناك حائط مجابهة قوي مهم وحاضر ويناضل ويتصدى لهؤلاء (المثقفين) السلطويين وأفكارهم الخبيثة، وهم بعيدون عن ابتزاز المال السياسي، وأيديهم نظيفة، ويعبرّون عن الموقف الوطني العام بعيداً عن دعاة أنصاف الحقيقة، ولا يكترثون بوصفهم بالعدميين وأنهم أعداء الديمقراطية والحداثة، وما زالوا يوماً بعد يوم يناضلون من أجل كشف أهداف وتوجهات هؤلاء المثقفين المشبوهة، وصفقاتهم التجارية، ومحاولاتهم الوقوف في وجه المطبّعين مع الاحتلال والتقارب في المواقف مع الرواية الصهيونية، رغم مطاردة الاحتلال لهم واعتقالهم في كثير من الأحيان، ومحاربة السلطة لهم، والتحريض عليهم عبر وسائل الإعلام المختلفة، وهنا نلمس جهود جيش من الشباب في الضفة والقدس وفي مواقع أخرى يشنون حرباً بلا هوادة على المطبّعين وتعريتهم وفضح أفكارهم، ولقد نجحت جهودهم أخيراً في اقتحام أوكار اجتماعاتهم، وأوصلوا صوت شعبنا الفلسطيني الرافض للاتجاهات الفاسدة والمنحرفة في المجتمع الفلسطيني.
حاول المفكر العالمي إدوارد سعيد تأكيد هذا المبدأ من خلال كتابه الشهير " المثقف والسلطة" حين أكد على أن المثقف الحق لا يمثل أحداً بل يمثل مبادئ كونية مشتركة لا تنازل عنها، ممثل بنص الجماهير، وهو الذي لا يقبل أبداً بأنصاف الحلول، أو أنصاف الحقيق. هو الشخص الذي يواجه القوي بخطاب الحق، ويعبّر على أن وظيفته هي أن يجبر نفسه ومريديه بالحقيقة. هو المثقف المقاوم، يقاوم بفكرة ونشاطه مواجهة هيمنة السلطة السائدة بمختلف أنماطها المادية والاجتماعية والسياسية التي تحتكر البنية الفوقية للمجتمع والسياسة.

ويشن "سعيد" في كتابه هجوماً عنيفاً على ذلك المثقف الانقلابي الذي تغيره اللحظة، ويصبح انتهازياً غير مؤمن بمبادئ كونية تعفيه من أداء صورة المنافق والمتقلب، مؤكداً أن المثقف هو الذي لا يعبد لا أرباب السياسة ولا أرباب الشركات ولا يؤمن بهم مهما كان نوع هذا الرب، وأن اتخاذ المثقف صفة العابد لهذا الرب، هو نشوز عن دوره وسلوكه، داعياً المثقف ألا يسمح لطاقة سلبية ولأي راع من الرعاة أو سلطة من السلطات توجهه أو توجه خطابه لخدماته لأنه عادة ما تخذل هذه الأرباب عبادها.

تعزيز برنامج المقاومة في مواجهة حراس السلطة الليليين:
 إن تعزيز برنامج المقاومة الشاملة، والرفض المطلق المبدئي للسلطة ومواجهة مثقفيها وأفكارهم هو الحل السحري والعملي لدحض افتراءات هؤلاء المثقفين الفاسدين، وتحصين جبهتنا الداخلية من ذلك الوباء (السلطوي)، وكشف أكاذيبهم والتصدي لبرامجهم ومخططاتهم ومشاريعهم الاستثمارية، يجب أن نحمل أفكار ناجي العلي برفض الدخول في عملية التطويع والتطبيع الشامل، ورفض المشاركة في حلول التسوية. يجب علينا  شن حرب لا هوادة ضد هؤلاء الفاسدين يتزامن مع نضالنا الحثيث من أجل إسقاط نهج "أوسلو"، وصوغ بديل وطني ديمقراطي تحرري ينضم تحت لوائه جميع أبناء شعبنا.

ونشير هنا وفق لمصطلح المفكر "غرامشي" " الدولة الشرطي"، إلى أن هؤلاء المثقفين أو الحراس الليليين تحوّلوا كوكلاء لهذه الدولة الشرطي، وحاولوا تنفيذ الوظائف المندرجة في إطار الهيمنة والمقصود هنا " الهيمنة السياسية".

وأختم بالعودة إلى نقطة بالغة الأهمية حملها كتاب " فلسطين ليست للبيع" ، عندما ينصحنا الكاتب "نخلة" بضرورة الوصول لآليات عمل حقيقية من أجل التصدي لمحاولات تكبيل الأجيال الحاضرة والمستقبلية بالوعي وخلق تنمية تحررية مرتكزة على الناس هدفها النهائي لها هو خلق نسيج اجتماعي متماسك وصلب ينفذ إلى أعماق الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال، والأفكار المسومة، ومشاريع الانجئوز المحولة والتي تستهدف المجتمع ولا تستعرض انتهاكات الاحتلال. وأهم من ذلك كله يدعو الكاتب لضرورة مراجعة المناهج التعليمية الأساسية باعتبار التعليم " مشروعاً وطنيا، وليس سلعة تباع وتشترى وتتطور بالدعم الخارجي، على أن يتم ذلك من مصادر وطنية صرفة، مع القناعة بأن الفلسطينيين يعيشون صراعاً طويلاً المدى" كما قال نخلة في كتابه.

( انتهى)


الجمعة، 21 نوفمبر 2014

عملية القدس بطولية يا حسن اللي مش بطل



أيمن أنور

دعونا نتوقف قليلاً حول كتاب " حلم رام الله .. رحلة في قلب السراب الفلسطيني" للكاتب الفرنسي "بانجمين بارت" أصدره العام الماضي، والذي اخترق خلاله عالم سلطة أوسلو الهش من الداخل، ونقل لنا حقيقة الأوضاع المأساوية في أراضي الضفة المحتلة على كل الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث اعتبر في كتابه كيفية تحّول السلطة إلى مجرد إدارة للاحتلال تقاد من مستوطنة "بيت إيل"، متطرقاً إلى الفساد السياسي والصفقات التجارية والامتيازات التي يستفيد منها الكثيرون من الشخصيات السياسية والقيادية في المقاطعة وحولها خصوصاً رجال الأعمال والكتّاب والأكاديميين . تتركز هذه الشرائح في حي الطيرة الغني جداً حيث تربّحت من السلطة وأصبح لها امتيازات وعقارات وشركات عائلية، ولا تجدها أبداً بين الناس، بل في المؤتمرات وحفلات القنصليات، وفي مؤتمرات وورشات عمل السلطة أو جلسات التطبيع مع الاحتلال، وهمها الوحيد الدفاع المستميت عن برامج السلطة وسياساتها وفسادها، والمتاجرة بأوهام السلام، والهجوم على المقاومة.

طبيعي في هذا السياق، أن تحيط قيادة السلطة نفسها بدائرة من الكتّاب والمثقفين الفاسدين، تحافظ من خلالهم على الوضع القائم، وتقزم إدارة الصراع والمواجهة مع الاحتلال في خيارات السلطة العقيمة من مفاوضات واجتماعات أمنية وتنسيق أمني، وهي من أجل ذلك فتحت خزائن أموال الشعب الفلسطيني لهم لحثهم على الاستمرار ببث سمومهم وأكاذيبهم بين الناس، وزرعتهم في المناصب الحساسة، خاصة الصحف والمجلات ذات اللون والاتجاه السلطوي الواحد، أبرزهم الكاتب المعروف في جريدة الأيام حسن "البطل" الذي حمل لواء الدفاع عن نهج القيادة الفلسطينية المتنفذة المتفرد والإقصائي منذ كان في بيروت، وقبرص، وعدائه المعروف آنذاك لجبهة الرفض وخصوصاً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

وطبعاً، جهود حسن " البطل" الحثيثة على مدار سنوات طويلة في الدفاع عن أرث أوسلو المقيت وقياداته الفاسدة المتعاقبة حولتّه إلى أحد الأسلحة الهامة والأبواق الإعلامية التي تعتمد عليها قيادة السلطة وتسخرها في الهجوم على الفكر الثقافي المقاوم، فليس غريباً أن يواصل باستماتة وصف العمليات الاستشهادية بالعمليات الانتحارية واعتبارها جريمة من جرائم الحرب.
وقد جاءت مقالته الأخيرة التي نُشرت يوم الخميس الماضي في جريدة الأيام بعنوان " ولكنها ليست بطولية" في ذات السياق والمنهج الاستسلامي والانهزامي الذي يحاول تمريره دائماً عبر صحف السلطة، حيث وصف العملية البطولية التي نفذتها الجبهة الشعبية في القدس بالعملية الخطيرة التي لها تداعيات خطيرة!!، وتهدد بنقل الصراع بين شعبين إلى حرب بينهما!!، رافضاً إعلان الجبهة المسئولية عن هذه العملية، معتبراً أن ذلك سيكون له تداعيات خطيرة لأن الجبهة عضو بالمنظمة، وهي جبهة يسارية لا يُفترض على عناصرها حسب زعمه شن هجوم قاتل على كنيس!! ، وأن الجبهة بهذه العملية تصب الزيت على حرب دينية حذر من مخاطرها رئيس السلطة وعقلاء كثيرون في "إسرائيل"!!، واصفاً خلال مقالته القتل الفردي والجماعي سواء بمبادرة فردية أو فصائلية غير مشروع، وبالذات إذا ضرب على العصب الديني!!!، مختتماً مقالته بأن لا شئ يبرر حرق جامع، ولا شئ يبرر هجوماً قاتلاً على كنيس!!.

يوجه حسن " البطل" قلمه بعقلية الليبرالي الغربي الرافضة لكل مكتسباتنا وهويتنا الوطنية، ولا يجرؤ طبعاً أن يعطي لشخصيته الفرصة أن تخوض صراعاً مع ضميره، لأنه حسم  وجهته قديماً وليس جديداً بالانتماء إلى مدرسة أوسلو الفكرية المنفصمة روحاً ولغة وفكراً وهدفاً عن خيارات شعبنا في المقاومة والتحرير ومواجهة الاحتلال.    

جاءت مقالة "البطل" الأخيرة لتؤكد أن هناك حفنة قليلة معزولة تمارس فن الرقص على جراح شعبنا وعذاباته، وتحاول باستماتة بث سمومها الخطيرة وفكرها الانهزامي بين أوساط شعبنا، وهي على قلتها وعدم تأثيرها محصنة ومحمية تماماً من قيادة السلطة التي تشترك معها في الجريمة، وتحاول تبهيت صورة شعبنا النضالية أمام العالم، وتجريم الشباب الوطني المخلص وردوده المشروعة على هذا الاحتلال الكولنيالي العنصري.
ليس غريباً أن تتقاطع أفكار حسن "البطل" مع كتّاب صهاينة في التحذير من حرب دينية قادمة، طالما أن "البطل" ومجموعة من المثقفين من الدائرة القريبة المحيطة بمحمود عباس لا يمتلكون أي وعي وطني بطبيعة الصراع بيننا وبين الاحتلال الصهيوني لأنهم قد اشتروا أنفسهم وقلمهم بالمال والمناصب والنفوذ، ولذلك لن يحاولوا المس بمحرمات عملت سلطة أوسلو على تثبيتها وترسيخها في المجتمع الفلسطيني عبر إجراءات كي وعي ممنهجة ومركزة، نجحت إلى حدٍ ما في السيطرة على بعض العقول الضعيفة، لكنها تفاجئت الآن أن إرادة شعبنا الحقيقية انتفضت من سباتها وفكت سحر أوسلو المقيت، وها هي تعيد بوصلة الصراع الحقيقي إلى مسارها الصحيح في ضرباتها ومقاومتها القوية والساحقة للاحتلال الصهيوني في القدس، والضفة، وفي مناطق الـ48، لتلعن السلطة وبرامجها وقيادتها وأذنابها.

لقد أعادت العملية البطولية في القدس يا "بطل" الأمور إلى أصلها الحقيقي، وقضيتنا الوطنية إلى مكانتها الطبيعية، ولم تكن عملاً فردياً أو شيئاً عابراً ولم يكن هدفها الانقضاض على معهد أو كنيس ديني في داخله مصلين يهود، بل على وكر يجتمع فيه مجموعة من القتلة الصهاينة الذين ينطلقون من داخله لقتل أطفالنا ونسائنا في مدينة القدس، فأين كنت يا "بطل" عندما خرج هؤلاء القتلة انطلاقاً من هذه الأوكار واختطفوا الطفل المقدسي محمد أبو خضير وحرقوه حياً!! – طبعاً أنت لا تتمنى أن يكون ابنك في مكانه - ، أين كنت عندما شنق هؤلاء الشاب الرموني في جريمة جديدة أخرى!! أين كنت وجرائم هؤلاء القتلة تتواصل وتتواصل ضد شعبنا!!! .

إن اللعب أيضاً على وتر جمع عملياتنا البطولية والمشروعة في سلة واحدة مع العمليات الإرهابية لهؤلاء القتلة بحجة أن عملياتنا تشابه عملياتهم ولا تختلف في الهدف والتداعيات..إلخ، هي الوجه القذر للأقلام الصفراء المسمومة التي يستغلها الاحتلال في حربه ضد شعبنا الفلسطيني، ونذكّر البطل وجميع الكتاّب الانهزاميين أن المجتمع الصهيوني بتركيبته الحالية بيمينه ويساره ووسطه إرهابي وعسكري وليس مدني، ومن السذاجة والتفاهة أن تذرف الدموع على هؤلاء القتلة وتصوّب الأقلام كسهام في ظهر مقاومينا، فالمعركة مع هذا الاحتلال هي معركة وجود وهو كيان استئصالي عنصري كولنيالي وندرك جميعاً أن الانتصار على هذا الكيان لن يتم إلا برحيله وكنسه بالكامل عن أرضنا، هذا الموضوع ليس طوباوياً أو مستحيلاً، وإنما خاضع لإرادة وصلابة وصمود ووحدة شعبنا، وليس ببرنامج السلطة وقيادته التابعة.

إن كان الكاتب الهمام "البطل" تناسى أن عملية القدس البطولية استهدفت وكراً إرهابياً أقيم على أنقاض قرية دير ياسين المدمرة، والتي ارتكبت العصابات الصهيونية بحقها عام 1948 مجزرة رهيبة، فإن طاقات شابة مقدسية حرة أبية لم تنسَ هذه المجزرة، وفتحت الحساب المفتوح مع الاحتلال لتنتقم للأجداد ولتعيد خزان الذاكرة من جديد، وأصل الصراع إلى مكانه الطبيعي ، وأنه لا استقرار ولا حياة إلا برحيل هذا الكيان عن كل شبر من أرضنا.

لقد حملت العملية البطولية في القدس دلالات ومعاني كبيرة لن يشعر بتأثيرها وتداعياتها الإيجابية إلا الوطنيين الشرفاء الذين قدّموا ولا زالوا الغالي والنفيس من أجل استمرار شعلة المقاومة في وجه هذا الكيان الصهيوني الغاصب، ولم يضعوا أنفسهم يوماً حاجزاً أو مانعاً أو ناقداً أو مشوهاً للنضال الفلسطيني ولصورة شعبنا.

نأمل من "البطل" وأمثاله أن يعودوا إلى حضن شعبهم وخياراته، وأن يدرسوا أدب المقاومة حتى يمتلكوا الوعي الثقافي اللازم لوصف الحالة الفلسطينية بطبيعتها وثوابتها، وليس بوجهة نظر السلطة وبرامجها الخبيثة.   


( انتهى)   

الجمعة، 5 سبتمبر 2014

"ورقة من غزة" لغسان، النبوءة التي ستعبّد الطريق إلى صفد


أيمن أنور

ما زالت كتابات الأديب الراحل غسان كنفاني تفاجئناً يوماً بعد يوم، حين نتعمق أكثر فأكثر في أغوار النكبة وآلام التشرد واللجوء، وتفاصيل الحياة الفلسطينية القاسية منذ الغزو الصهيوني لأرضنا وحتى اليوم.
ولعل أبرز المفاجآت التي لمسناها في أيام العدوان الصهيوني على القطاع أننا حين نستحضر "ورقة من غزة" في الرواية الشهيرة للأديب الراحل " أرض البرتقال الحزين" نكتشف فيها وصفاً حقيقياً وتراجيدياً لمعارك الصمود والآلام والمقاومة التي خاضها الشعب الفلسطيني في القطاع ضد الآلة الحربية الصهيونية على مدار 51 يوماً، وكأن الأديب الراحل يعيش بيننا الآن وينقل عبر قلمه المشهد مباشرة، ويستعرض فيه مآلات العدوان وقصص الصمود والبطولة على تخوم الشجاعية ورفح وبيت حانون، وعذابات الأطفال التي شوهت القذائف أجسادهم، وبترت سيقانهم.
بشرنا غسان بنبوءة أخرى، كما بشرنا بعد ذلك بالمقاومة في رواية " ما تبقى لكم" التي لم يجد لها جواب في رواية "رجال في الشمس" بعد رحلة تيه رهيبة في الصحراء.
قدرة غسان على استشراف المستقبل في رواياته وكتاباته ليست الوحيدة التي شكّلت أساساً ومرجعاً ثورياً وملهماً للأجيال الفلسطينية المتعاقبة، ولكن في قدرته على الغوص بأدق التفاصيل والتي حولّت كتاباته إلى لوحة متعددة ومتكاملة ربطت الواقع الفلسطيني الحالي أو المستقبلي، بروايات وقصص وشخصيات من نسج خياله عاصرت النكبة ووثقت للتاريخ عذاباتها.
كما لم تكمن عبقرية غسان في قدرته فقط على تفصيل المشهد وتوزيعه إلى أدوار شخصيات تعاني آلام الاحتلال، والتي اقتبسنا منها كلمات شهيرة كانت من نسج غسان، بل من خلال قدرته الهائلة على تحويل هذه القصة والمأساة والرواية التي عايشها حين غادر عكا وحيفا وأصبح لاجئاً إلى رواية وقصة تعتبر مرجعاً هاماً للنكبة وقاموساً من معانيها وآلامها.
كان يمكن لغسان أن يحّول "ورقة من غزة" في " أرض البرتقال الحزين" إلى متحف للبكاء واستعراض آثار الهزيمة، لولا معرفته آنذاك بغزة وما تمثله وما ستصنعه، رغم أن آثار الهزيمة في ذلك الوقت لم تمحى بعد، وكانت هناك رغبة شعبية فلسطينية جامحة للهروب من هذا الواقع للخارج، عبر الكويت مثلاً، ومن ثم للولايات المتحدة كما حدثنا في الرواية.

كان يمكن لغسان أن يسهب طويلاً بورقة غزة في عقد المقارنات بين تجربة حرب فيتنام التي طغت في تلك الأيام وانتصارها على التحالف الأمريكي وأذنابه وبين تجربة هزيمة النكبة وآثارها في غزة، لكنه لم يفعل لأنه كان على قناعة تامة بأن غزة بأزقتها الضيقة وحياتها المعمّدة بلون الدم منذ سنوات النكبة هي بداية طريقة الآلام، والمدخل لشارعنا الطويل الذي يصل بنا إلى صفد!.
رغم البداية البائسة والمحبطة من هزيمة النكبة في " ورقة من غزة" ومقارناته بين  مدينة "كاليفورنيا" الأمريكية حيث الخضرة والماء والوجه الحسن و"غزة" المفعمة بالسواد والحزينة والكئيبة، إلا أن مشهد نادية الطفلة البريئة التي بُترت احدى ساقيها جراء القصف الصهيوني أعاد إليه الأمور إلى حقيقتها.
لقد أدرك غسان منذ البداية بأن غزة والمقاومة شيئان لا يفترقان.. فهي منذ فجر التاريخ وهي تقاوم..  "وكانت دوماً تنتفض حزناً.. حزناً لا يقف على حدود البكاء.. بل إنه التحدي ، بل أكثر من ذلك إنه شئ يشبه استرداد الساق المبتورة لنادية". هذه هي النبوءة التي خبأها لنا غسان للحظتها وأراد أن يقول من خلالها بأن غزة هي الأرض التي ستعيد حياتنا المقطوعة وكرامتنا المفقودة رغم استمرارها في دفع الضريبة عن باقي أخوتها من دم أبنائها وأشلاء أطفالها.
"نادية" ، في "ورقة غزة" هي غزة نفسها التي ألقت بنفسها فوق أخوتها الصغار تحميهم من القنابل واللهب، وهي منذ فجر الاحتلال في دوامة وصراع مرير معه، وتخوض حرب استنزاف ضده.
كان يمكن لنادية ( غزة) أن تنجو بنفسها وأن تهرب وأن تنقذ ساقها المبتورة وأن تتحول إلى سنغافورة الشرق، وأن تصبح حديقة زهور " أشيكانما"، أو قرية سياحية هادئة وخالية من العنف، أو أن تنافس بغازها كازيات ومشايخ النفط، لكنها منذ البداية اختارت الطريق الأصعب والوعر، ولكنه أقصر الطرق لفلسطين، وهو سر العلاقة التي اكتشفناها أثناء الحرب على غزة بين الشجاعية وصفد في "ورقة من غزة".
كانت "غزة" في نظر غسان  العملاق الذي بادر دون غيره بالنهوض، ولعل من تجليات القدر أيضاً أن المناضل الكبير الشهيد "ناجي العلي" قد تنبأ بصورة مماثلة في منتصف الثمانينات لهذا العملاق الذي سيفجر انتفاضة ومن "غزة". وهي أيضاً شكّلت أعظم المعارك والمواجهات ضد الاحتلال في مطلع السبعينيات، حيث تصدر فيها قائد الفدائيين "جيفارا غزة" المشهد وأصبح رغماً عن الصهاينة حاكمها وقائد مقاومتها، ومن غزة انطلقت حرب الاستنزاف بعد هزيمة حزيران. وقبلها المقاومة الباسلة في العدوان الثلاثي على مصر بالخمسينيات من القرن الماضي.
لقد وجد غسان أخيراً في هذا العملاق ضالته، والإجابة على أسئلته الأليمة عن كيفية البحث عن الانتصار وإعادة النهوض من جديد على أنقاض الهزيمة؟!
لقد استطرد في روايته فجأة بعد أن تعلم من ساق نادية المبتورة ماهية الحياة التي يجب أن يعيشها الفلسطيني، وقيمة وجوده على أرضه، فأدرك بعد أن انتفضت روحه المستسلمة، وصرخت في وجه صاحبه ( عد يا صديقي فكلنا ننتظرك ) وقال عبارته الشهيرة في الورقة ( سأبقى هنا ولن أبرح أبداً) رغم حالة النزاع مع مستقبل غامض كأول الليل، وروتين عفن، ونضال ممجوج مع الزمن، شكّلتها الهزيمة.
هذا هو السر الذي يميز غزة دوناً عن غيرها، فهي ما فتئت تقاتل وهي تتلقى القذائف والصواريخ واللهب، ولكنها تقاوم، وعند الوصول للإجابة عن السؤال الكبير الذي طرح غسان في ورقته " لماذا لا نترك هذه الغزة ونهرب لماذا؟ " تظهر فجأة أمامهم صورة غزة الجريحة وهي تقاوم على الجرح، فتتحول فجأة حالة الصراع مع الذات إلى حالة يقينية بالتشبث بغزة وعدم القدرة على مغادرتها.

برأ غسان غزة دون غيرها من أسباب الهزيمة، وأعفاها من السؤال الملح " لماذا نترك هذه الهزيمة بجراحها ونمضي إلى حياة أكثر ألواناً وأعمق سلوى؟"، لأن غزة ببساطة في نظر غسان حوّلت هذه الهزيمة والتي تبعث رغبة جامحة في الهروب إلى حرب استنزاف طويلة وطويلة جداً للعدو أسقته مرارة الهزيمة، ومنذ سنوات وهي تقاوم.
لقد تخلصت غزة يا غسان من رائحة الهزيمة ، وأصبحت بيوتها ذوات المشارف الناتئة تنضح كرامة، ومقاومة، وعزة، وتحوّل البؤس والفقر إلى دافع لمقاومة الاحتلال ومرابض للصواريخ وأنفاقاً هجومية، فجيل غزة الذي رضع آباءه الهزيمة والتشرد كبر وترعرع وأصبح أكثر تصميماً ألا ينسى ساق نادية المبتورة، وعاهد الشهداء على تحويل ألم نادية وحزنها إلى هدف سامي ضد الاحتلال.
أعطانا غسان اليقين بأن من غزة ستكون بداية التحرير، ومن يومها وهي تعبّد ذلك الشارع الرئيسي الذي سيعيدنا إلى دارنا القديمة... جيفارا غزة ورفاقه فكوا لوغاريتم هذه المعادلة وواصلوا شق الطريق، وحفظ هذه المهمة عن جدارة صاحب أول نفق هجومي في الانتفاضة الثانية ومفجر بوابة صلاح الدين برفح القائد في كتائب الشهيد أبو علي مصطفى أشرف أبو لبدة .. ذلك النفق هو البداية لذلك الشارع الطويل الذي يصل إلى صفد.
غزة معفاة من دفع ضريبة الهزيمة لأنها عزيمة الرجال وكلما تخسر رمزاً تنجب آخراً يستكمل طريق الرحلة، ويواصل حفره في جذور الوطن للوصول للأهداف المنشودة.. غزة ليست مصنع للأطراف الصناعية كما أرادها الاحتلال والمتاجرون والمساومون، بل مصنع لتصدير الرجولة والسواعد الصلبة.
غزة هي نقطة التقاء الجنرالات الأبطال .. يرحل بطل ويظل آخر متشبثاً بالنقطة فيستشهد فيسلم الراية لآخر.. غزة متعودة أن تفقد أعتى جنرالاتها جيفارا غزة، رائد العطار، جمال أبو سمهدانة، مجدي الخطيب فهي أكثر معرفة بطبيعة الصراع مع العدو الصهيوني، وهي ما فتئت تعلم أطفالها جميعاً بأنهم مشاريع جنرالات ورثوا أنفاقاً وسلاحاً وشجاعة وكرامة وسيستمرون في ذات النهج والطريق، الذي بشرنا به غسان والذي سننطلق منه إلى حيفا وعكا ويافا واللد وكل شبر من فلسطين.

لقد رسم الأديب كنفاني في رواية "أرض البرتقال الحزين" ومن خلال " ورقة من غزة" عن قناعة وتجربة وإلهام معالم طريقنا نحو التحرير انطلاقاً من غزة ومن جرحها المستمر، فكانت ورقته بحق نبوءة واقعية وملحمة حقيقية تتعدى بشكل كبير ملاحم التاريخ الاسطورية " جلجامش والالياذة والأوديسا".

فهل ستحمل المعركة القادمة نبوءة جديدة لغسان، تنتقل غزة فيها في معركتها إلى قلب الطيرة، والرملة؟! جنرالات غزة سيجيبون عن هذا السؤال قريباً.

الثلاثاء، 1 يوليو 2014

وكالة معاً من بوق للسلطة ورأس المال القذر إلى ناطق رسمي باسم الاحتلال


أيمن أنور

لم يعد خافياً على أحد أن وكالة معاً منذ عملية الخليل واختطاف المستوطنين الثلاثة لعبت دور الناطق الرسمي لجيش الاحتلال، حيث تصدرّت الأخبار المنقولة عن الاحتلال وصحفه وكتّابه ومراسليه العسكريين الصهاينة موقع الوكالة كأخبار مميزة، ناهيك عن استضافة الناطق باسم جيش الاحتلال "أفيخاي ادرعي" الذي لطالما يستثمر هكذا لقاءات ليوجه رسائل تهديد للجبهة الداخلية الفلسطينية.

تقدمت الإمبراطورية الإعلامية المالية التي يتزعمها المستوزر ناصر اللحام خطوة إلى الأمام، فقد تجاوزت كونها بوقاً رسمياً لسلطة محمود عباس ومدافعاً عن سياساتها، وحليفاً رئيسياً لرأس المال القذر الذي يسيطر على مقاليد الأمور داخل أراضي السلطة الفلسطينية، إلى ناطق رسمي ومعتمد ومنصة هامة للاحتلال الصهيوني.

تتحايل الوكالة على أبناء شعبنا الفلسطيني، حينما تقوم بترجمة ما يصدر عن الاحتلال الصهيوني وإعلامه تحت عباءة " الاستقلالية ونشر الحقيقة كما هي" وتقوم بنشره في الأعمدة الرئيسية للوكالة، وهي بدون خجل وبمعرفة مسبقة تقوم بتبرير الرواية الصهيونية ووجهة نظر الاحتلال من أجل تسميم الجبهة الداخلية الفلسطينية ومحاولة نقل أكاذيب الاحتلال للتأثير على الجمهور الفلسطيني وتخويفه وكي الوعي لديه.

تحوّلت الصفحة العبرية للوكالة إلى نسخة متطابقة من مواقع إسرائيلية مثل " هآرتس" و"يديعوت أحرنوت"، لا سيما أن سياسة نشر الأخبار والبيانات والتصريحات الفلسطينية باللغة العبرية ولغة التحريف الهائلة بها سببها حسب رأينا رغبة الوكالة في عدم تجاوز الترخيص واتفاقية التعاون بين الوكالة والمؤسسات الإعلامية الصهيونية والتي تلتزم فيه الوكالة بمصطلحات معينة، وضرورة تعديل المصطلحات التي تؤكد على حق شعبنا في المقاومة، وشرعية الرد على الاحتلال وجنوده ومستوطنيه.

أما بخصوص الموقع الانجليزي، فقد تحّول إلى أداة للكذب الصريح وحرف الحقائق حسب موقف ورؤية الاحتلال الصهيوني، فأمر طبيعي أن ينشر الموقع العربي خبراّ  تبرز بتفاصيله إدانة واضحة وصريحة للاحتلال، في حين أن الخبر ذاته على الموقع الانجليزي يتُرجم وينشر بطريقة إدانة لمقاومتنا ولحقوقنا، وإبراز جنود الاحتلال كإنسانيين وحضاريين. وعلى سبيل المثال ندعو الجميع إلى التدقيق في الأخبار التي تنشر عن عملية الخليل واختطاف المستوطنين الثلاثة، فالموقع العربي يتعامل مع مصطلح " خطف ثلاثة مستوطنين"، أما الموقع الانجليزي يتعامل مع مصطلح " خطف ثلاثة فتية" وهو يتطابق مع الرؤية الصهيونية.

إن أردنا وصف طبيعة العلاقة بين وكالة معاً والاحتلال الصهيوني، يتبادر إلى ذهننا العلاقة المميزة بين الكمبرادور الفاسد منيب المصري ورامي ليفني. فالمال والنفوذ هو المّكون الرئيسي لهذه العلاقة، وهو الذي يجعل واحداً ابن مخيم وأسير محرر كناصر اللحام يتعامل مع الإعلام كتجارة ومصدر لجني الأرباح ولغة من لغة المصالح، وفق رؤية إعلامية تسير على مبدأ ( ربحّني بزبطك)، ولا نود هنا الغوص في تفاصيل الموارد التي يتحصّل علينا من فضائية معاً "ميكس" أو من الإعلانات.

تلجأ وكالة معاً إلى خدعة خطيرة جداً وقد تكررت أكثر من مرة، وهي تعمد عن سبق إصرار وترصد، بالتعامل مع إعلانات مدفوعة من الاحتلال الصهيوني على أنها جزء من الأخبار التي تقوم بنشرها بشكل اعتيادي حتى تبعد الشبهات عن أن هذه الاعلانات ومصدرها صهيوني؛ فما الذي يجبر الوكالة على نشر إعلان لشرطة الاحتلال تطلب فيه المساعدة بالعثور على مفقودة إسرائيلية على هيئة خبر، إن لم يكن هدفه الأساسي هو إخفاء الحقيقة للجماهير بأنه مجرد إعلان إسرائيلي مدفوع .


ولأن الوكالة قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء، ولا تستجيب حتى هذه اللحظة للنداءات الوطنية بتغيير نهجها وسياستها، فإن مقاطعتها بشكل واسع وفضح سياستها وكشف حقيقة التعاون الإعلامي المشترك مع الاحتلال ضرورة وواجب.