الجمعة، 5 سبتمبر 2014

"ورقة من غزة" لغسان، النبوءة التي ستعبّد الطريق إلى صفد


أيمن أنور

ما زالت كتابات الأديب الراحل غسان كنفاني تفاجئناً يوماً بعد يوم، حين نتعمق أكثر فأكثر في أغوار النكبة وآلام التشرد واللجوء، وتفاصيل الحياة الفلسطينية القاسية منذ الغزو الصهيوني لأرضنا وحتى اليوم.
ولعل أبرز المفاجآت التي لمسناها في أيام العدوان الصهيوني على القطاع أننا حين نستحضر "ورقة من غزة" في الرواية الشهيرة للأديب الراحل " أرض البرتقال الحزين" نكتشف فيها وصفاً حقيقياً وتراجيدياً لمعارك الصمود والآلام والمقاومة التي خاضها الشعب الفلسطيني في القطاع ضد الآلة الحربية الصهيونية على مدار 51 يوماً، وكأن الأديب الراحل يعيش بيننا الآن وينقل عبر قلمه المشهد مباشرة، ويستعرض فيه مآلات العدوان وقصص الصمود والبطولة على تخوم الشجاعية ورفح وبيت حانون، وعذابات الأطفال التي شوهت القذائف أجسادهم، وبترت سيقانهم.
بشرنا غسان بنبوءة أخرى، كما بشرنا بعد ذلك بالمقاومة في رواية " ما تبقى لكم" التي لم يجد لها جواب في رواية "رجال في الشمس" بعد رحلة تيه رهيبة في الصحراء.
قدرة غسان على استشراف المستقبل في رواياته وكتاباته ليست الوحيدة التي شكّلت أساساً ومرجعاً ثورياً وملهماً للأجيال الفلسطينية المتعاقبة، ولكن في قدرته على الغوص بأدق التفاصيل والتي حولّت كتاباته إلى لوحة متعددة ومتكاملة ربطت الواقع الفلسطيني الحالي أو المستقبلي، بروايات وقصص وشخصيات من نسج خياله عاصرت النكبة ووثقت للتاريخ عذاباتها.
كما لم تكمن عبقرية غسان في قدرته فقط على تفصيل المشهد وتوزيعه إلى أدوار شخصيات تعاني آلام الاحتلال، والتي اقتبسنا منها كلمات شهيرة كانت من نسج غسان، بل من خلال قدرته الهائلة على تحويل هذه القصة والمأساة والرواية التي عايشها حين غادر عكا وحيفا وأصبح لاجئاً إلى رواية وقصة تعتبر مرجعاً هاماً للنكبة وقاموساً من معانيها وآلامها.
كان يمكن لغسان أن يحّول "ورقة من غزة" في " أرض البرتقال الحزين" إلى متحف للبكاء واستعراض آثار الهزيمة، لولا معرفته آنذاك بغزة وما تمثله وما ستصنعه، رغم أن آثار الهزيمة في ذلك الوقت لم تمحى بعد، وكانت هناك رغبة شعبية فلسطينية جامحة للهروب من هذا الواقع للخارج، عبر الكويت مثلاً، ومن ثم للولايات المتحدة كما حدثنا في الرواية.

كان يمكن لغسان أن يسهب طويلاً بورقة غزة في عقد المقارنات بين تجربة حرب فيتنام التي طغت في تلك الأيام وانتصارها على التحالف الأمريكي وأذنابه وبين تجربة هزيمة النكبة وآثارها في غزة، لكنه لم يفعل لأنه كان على قناعة تامة بأن غزة بأزقتها الضيقة وحياتها المعمّدة بلون الدم منذ سنوات النكبة هي بداية طريقة الآلام، والمدخل لشارعنا الطويل الذي يصل بنا إلى صفد!.
رغم البداية البائسة والمحبطة من هزيمة النكبة في " ورقة من غزة" ومقارناته بين  مدينة "كاليفورنيا" الأمريكية حيث الخضرة والماء والوجه الحسن و"غزة" المفعمة بالسواد والحزينة والكئيبة، إلا أن مشهد نادية الطفلة البريئة التي بُترت احدى ساقيها جراء القصف الصهيوني أعاد إليه الأمور إلى حقيقتها.
لقد أدرك غسان منذ البداية بأن غزة والمقاومة شيئان لا يفترقان.. فهي منذ فجر التاريخ وهي تقاوم..  "وكانت دوماً تنتفض حزناً.. حزناً لا يقف على حدود البكاء.. بل إنه التحدي ، بل أكثر من ذلك إنه شئ يشبه استرداد الساق المبتورة لنادية". هذه هي النبوءة التي خبأها لنا غسان للحظتها وأراد أن يقول من خلالها بأن غزة هي الأرض التي ستعيد حياتنا المقطوعة وكرامتنا المفقودة رغم استمرارها في دفع الضريبة عن باقي أخوتها من دم أبنائها وأشلاء أطفالها.
"نادية" ، في "ورقة غزة" هي غزة نفسها التي ألقت بنفسها فوق أخوتها الصغار تحميهم من القنابل واللهب، وهي منذ فجر الاحتلال في دوامة وصراع مرير معه، وتخوض حرب استنزاف ضده.
كان يمكن لنادية ( غزة) أن تنجو بنفسها وأن تهرب وأن تنقذ ساقها المبتورة وأن تتحول إلى سنغافورة الشرق، وأن تصبح حديقة زهور " أشيكانما"، أو قرية سياحية هادئة وخالية من العنف، أو أن تنافس بغازها كازيات ومشايخ النفط، لكنها منذ البداية اختارت الطريق الأصعب والوعر، ولكنه أقصر الطرق لفلسطين، وهو سر العلاقة التي اكتشفناها أثناء الحرب على غزة بين الشجاعية وصفد في "ورقة من غزة".
كانت "غزة" في نظر غسان  العملاق الذي بادر دون غيره بالنهوض، ولعل من تجليات القدر أيضاً أن المناضل الكبير الشهيد "ناجي العلي" قد تنبأ بصورة مماثلة في منتصف الثمانينات لهذا العملاق الذي سيفجر انتفاضة ومن "غزة". وهي أيضاً شكّلت أعظم المعارك والمواجهات ضد الاحتلال في مطلع السبعينيات، حيث تصدر فيها قائد الفدائيين "جيفارا غزة" المشهد وأصبح رغماً عن الصهاينة حاكمها وقائد مقاومتها، ومن غزة انطلقت حرب الاستنزاف بعد هزيمة حزيران. وقبلها المقاومة الباسلة في العدوان الثلاثي على مصر بالخمسينيات من القرن الماضي.
لقد وجد غسان أخيراً في هذا العملاق ضالته، والإجابة على أسئلته الأليمة عن كيفية البحث عن الانتصار وإعادة النهوض من جديد على أنقاض الهزيمة؟!
لقد استطرد في روايته فجأة بعد أن تعلم من ساق نادية المبتورة ماهية الحياة التي يجب أن يعيشها الفلسطيني، وقيمة وجوده على أرضه، فأدرك بعد أن انتفضت روحه المستسلمة، وصرخت في وجه صاحبه ( عد يا صديقي فكلنا ننتظرك ) وقال عبارته الشهيرة في الورقة ( سأبقى هنا ولن أبرح أبداً) رغم حالة النزاع مع مستقبل غامض كأول الليل، وروتين عفن، ونضال ممجوج مع الزمن، شكّلتها الهزيمة.
هذا هو السر الذي يميز غزة دوناً عن غيرها، فهي ما فتئت تقاتل وهي تتلقى القذائف والصواريخ واللهب، ولكنها تقاوم، وعند الوصول للإجابة عن السؤال الكبير الذي طرح غسان في ورقته " لماذا لا نترك هذه الغزة ونهرب لماذا؟ " تظهر فجأة أمامهم صورة غزة الجريحة وهي تقاوم على الجرح، فتتحول فجأة حالة الصراع مع الذات إلى حالة يقينية بالتشبث بغزة وعدم القدرة على مغادرتها.

برأ غسان غزة دون غيرها من أسباب الهزيمة، وأعفاها من السؤال الملح " لماذا نترك هذه الهزيمة بجراحها ونمضي إلى حياة أكثر ألواناً وأعمق سلوى؟"، لأن غزة ببساطة في نظر غسان حوّلت هذه الهزيمة والتي تبعث رغبة جامحة في الهروب إلى حرب استنزاف طويلة وطويلة جداً للعدو أسقته مرارة الهزيمة، ومنذ سنوات وهي تقاوم.
لقد تخلصت غزة يا غسان من رائحة الهزيمة ، وأصبحت بيوتها ذوات المشارف الناتئة تنضح كرامة، ومقاومة، وعزة، وتحوّل البؤس والفقر إلى دافع لمقاومة الاحتلال ومرابض للصواريخ وأنفاقاً هجومية، فجيل غزة الذي رضع آباءه الهزيمة والتشرد كبر وترعرع وأصبح أكثر تصميماً ألا ينسى ساق نادية المبتورة، وعاهد الشهداء على تحويل ألم نادية وحزنها إلى هدف سامي ضد الاحتلال.
أعطانا غسان اليقين بأن من غزة ستكون بداية التحرير، ومن يومها وهي تعبّد ذلك الشارع الرئيسي الذي سيعيدنا إلى دارنا القديمة... جيفارا غزة ورفاقه فكوا لوغاريتم هذه المعادلة وواصلوا شق الطريق، وحفظ هذه المهمة عن جدارة صاحب أول نفق هجومي في الانتفاضة الثانية ومفجر بوابة صلاح الدين برفح القائد في كتائب الشهيد أبو علي مصطفى أشرف أبو لبدة .. ذلك النفق هو البداية لذلك الشارع الطويل الذي يصل إلى صفد.
غزة معفاة من دفع ضريبة الهزيمة لأنها عزيمة الرجال وكلما تخسر رمزاً تنجب آخراً يستكمل طريق الرحلة، ويواصل حفره في جذور الوطن للوصول للأهداف المنشودة.. غزة ليست مصنع للأطراف الصناعية كما أرادها الاحتلال والمتاجرون والمساومون، بل مصنع لتصدير الرجولة والسواعد الصلبة.
غزة هي نقطة التقاء الجنرالات الأبطال .. يرحل بطل ويظل آخر متشبثاً بالنقطة فيستشهد فيسلم الراية لآخر.. غزة متعودة أن تفقد أعتى جنرالاتها جيفارا غزة، رائد العطار، جمال أبو سمهدانة، مجدي الخطيب فهي أكثر معرفة بطبيعة الصراع مع العدو الصهيوني، وهي ما فتئت تعلم أطفالها جميعاً بأنهم مشاريع جنرالات ورثوا أنفاقاً وسلاحاً وشجاعة وكرامة وسيستمرون في ذات النهج والطريق، الذي بشرنا به غسان والذي سننطلق منه إلى حيفا وعكا ويافا واللد وكل شبر من فلسطين.

لقد رسم الأديب كنفاني في رواية "أرض البرتقال الحزين" ومن خلال " ورقة من غزة" عن قناعة وتجربة وإلهام معالم طريقنا نحو التحرير انطلاقاً من غزة ومن جرحها المستمر، فكانت ورقته بحق نبوءة واقعية وملحمة حقيقية تتعدى بشكل كبير ملاحم التاريخ الاسطورية " جلجامش والالياذة والأوديسا".

فهل ستحمل المعركة القادمة نبوءة جديدة لغسان، تنتقل غزة فيها في معركتها إلى قلب الطيرة، والرملة؟! جنرالات غزة سيجيبون عن هذا السؤال قريباً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق